الإسلام السياسي واستقرار النظام العربي

TT

أثبت الربيع العربي أن الشعوب لم تنضج كفاية، وأن التركيبة الوطنية لدول المنطقة أبعد ما تكون عن التلاحم، وأن مفهوم الوطن لم يزل طريا، وأن النظام العربي متصدع ويوشك على الانهيار ما لم تتداركه الأيادي الحكيمة. ويشهد العالم العربي الآن محاولات إحيائية تبدو متواضعة بالمقارنة مع حجم التحديات، لكنها تبقى محاولات قد يكتب لها النجاح، لكنها بالمقياس الواقعي تبدو هي الأخرى في طريقها للفشل. ولعل ما ينذر بالفشل هو طريقة التعاطي مع خطرين أحدهما داخلي يتمثل بالإسلام السياسي، والآخر خارجي وملح وهو النفوذ الإيراني وتأثيره على التركيبة الداخلية لبعض الأوطان العربية.

برز الإسلام السياسي كقوة معتبرة في الربيع العربي، واستطاع أن يتبوأ السلطة، لكن وصوله كان محكوما، للأسف، بغياب الإطار الدستوري المجمع عليه، وبتفتت أجهزة الدولة أو على الأقل انكفائها. كما رافق هذا الوصول تحبيذ دولي على اعتبار أن السماح للإسلام السياسي المعتدل من شأنه أن يكون سدا قويا ضد التطرف الإسلامي المتمثل بالتيارات المتشددة الرافضة بالتحديد لليبرالية الديمقراطية والأكثر للمنظومة الدولية المتمثلة بدول سيادية ومؤسسات دولية واتفاقيات عالمية. وهذا الرفض التشددي لتلك المنظومة ينطلق من أسس فكرية ترى أن العالم منقسم إلى عالمين؛ دار إسلام ودار حرب، وأن الغاية تمكين الإسلام وخلق النظام العالمي الإسلامي. وقد ساهمت تعددية الإسلام السياسي هذه في تشرذم الرؤية إزاء طبيعة الدولة ودورها، وتترتب على ذلك، كما رأينا في مصر، ضعفا في الأداء وانفلاتا في الشارع. وهذا لا يعني تحميل الإسلام السياسي كل المسؤولية، بل يتحملها أيضا آخرون من علمانيين وليبراليين وتقليديين، لأنهم هم الآخرين عجزوا عن فهم المكون النفسي للإسلام السياسي، وعن فهم هوية المجتمع الحقيقية ونسبية الديمقراطية، وفضلوا المواجهة على الحوار، وكانت النتيجة مشاهدات نراها أمام أعيننا في سوريا ومصر وليبيا والعراق واليمن.

اختارت المنظومة العربية المتبقية والمقصود بها هنا دول مجلس التعاون الخليجي استراتيجية احتواء الانهيار كخطوة أولى والبناء كخطوة ثانية لمواجهة التحديات، وبالتحديد الخطر الإيراني الجاثم على شواطئ الخليج. اختارت دول الخليج في عملية وقف الانهيار دعم مصر، لأنها تعتبر الركيزة الأساسية للاستقرار العربي لما تملكه من مقومات بشرية وعسكرية وفضلت تلك المنظومة، من منظور الواقع، المؤسسة العسكرية على الإسلام السياسي المتمثل بالإخوان على اعتبار أن الإسلام السياسي بتشعباته يحمل أخطارا أكبر. وقد استطاعت تلك المنظومة الخليجية في عملية البناء أن تقنع قطر مؤخرا بالانضمام إليها لتشكيل جبهة موحدة تعيد مصر قوة إقليمية فاعلة تعيد من جديد التوازن إلى ميزان القوى في المنطقة. هذا الجهد الخليجي المدفوع أساسا بهاجس الخطر الإيراني، والمبني على بناء قوة مقابلة وبشكل سريع، على اعتبار أنه تخطيط مرحلي لقيام استراتيجية متكاملة لمواجهة الظروف المحيطة بالأمة والإيفاء بمقتضيات المصلحة العليا. لكن الخطر الأكبر من أن يكون هذا التفكير هو الاستراتيجية الكاملة القائمة على إبعاد الإسلام السياسي.

لقد أثبتت التجارب أنه من المستحيل القضاء على الإسلام السياسي لأن طبيعة الإسلام، وبالتحديد في عصر المعلومة والإنترنت، تنمي في المسلم الفكر السياسي، وتزوده برؤية عن العالم، وعن العدالة، وعن الحرية، وتحضه على التبشير بها والدفاع عنها. كما أن الإسلام السياسي أصبح قوة فاعلة على الأرض، ولا يمكن إزالته إلا من خلال أدوات العنف، والعنف سيولد الكثير من المشكلات، وأبرزها غياب الاستقرار بمعنى «الإجماع الداخلي». فقد تنجح القوة في الاستقرار المادي لكنها ستفشل حتما في رص صفوف المجتمع، وستترك آثارا كبرى في نفسية المعارضين، ولن يكتب لأي دولة أن تلعب دورا قياديا طالما أنها تفتقد الإجماع الشعبي.

إن استبعاد الإسلام السياسي بشكل متعسف لن يؤدي إلى الاستقرار في موازين القوى لأن الأمة التي ليس لها حصن فكري تتحصن فيه ستكون معرضة للأفكار الخارجية، وستكون أقل قوة ومنعة من خصمها الآيديولوجي. وبما أن الخطر، كما يتشكل في الواقع، هو خطر إيران (ولا نستبعد أبدا الخطر الإسرائيلي إنما نشدد على إيران على اعتبار أن الفكر الإيراني الحامل لنظرية التمدد الإسلامي الشيعي يهدد بشكل ملح وفي الصميم كيان المنظومة العربية)؛ ولذلك فإن إعادة بناء النظام العربي على أسس لا تأخذ بالاعتبار أهمية الطبيعة العضوية للإسلام السياسي ستؤدي إلى نتائج غير مرغوبة. وإذا ما نظرنا لإيران، كمثال، نجد أن قوتها لا تكمن أساسا في قدرتها على بناء السلاح النووي، ولا في اقتصادها إنما في «إجماعها الشعبي».

إن الحديث عن عودة مصر مهم للغاية، وكذلك عودة سوريا، وغيرها، لكن الأهم من كل ذلك أن نعيد النظر في الرؤية الاستراتيجية للمستقبل ونتعامل مع الواقع بعقلانية وانفتاح ولا نترك العواطف تؤثر في قراراتنا. فاليابان في عام 1925 واجهت إنذارا مبطنا من أميركا لفتح موانئها أمام التجارة الأميركية، ولم يكن بوسعها سوى الرضوخ، لكنها سرعان ما أعادت بناء نفسها وفق ما يسمى «ميثاق الشرف» بين أبناء اليابان. لم تمض سوى سنوات استطاعت بعدها اليابان أن تهزم روسيا وتفرض نفسها كقوة عظمى، تهابها أميركا وبقية دول العالم. وكما تمكنت اليابان بانصهارها الداخلي بناء قوتها، يمكن للعرب أن يبدأوا مشوارهم بالعمل على الوحدة الداخلية من خلال مبدأ الإجماع الشعبي القائم على فتح باب النقاش مع الإسلام السياسي المؤمن بالحوار، والرافض للعنف، والداعم لبناء توجهات المنظومة العربية الهادفة لتحصين الأمة ودرء الأخطار عنها؛ فالاستقرار لا يمكن تحققه إلا من خلال ذلك وإن تحقق بغير ذلك فهو استقرار هش لا يصمد أمام تهديدات الخطر الإيراني والإسرائيلي.