الشرق الأوسط.. إسطبلات الملك أوغياس

TT

على مشارف نهاية عام وبداية عام جديد، ربما يعن للمرء أن يتساءل هل أضحى الشرق الأوسط المكافئ الموضوعي لإسطبلات الملك أوغياس، التي حدثتنا عنها الميثولوجيا اليونانية القديمة، حيث الفوضى تعم كل الأرجاء، وإعادة الترتيب والتنظيف تحتاج لعقود طوال؟

بعد مائة عام تقريبا على امتلاك العرب لحلم الدولة القومية، ها نحن نقترب من مرحلة جديدة مثيرة، ربما تتجاوز انهيار سايكس بيكو القديمة، وحيث إن أحدا لا يملك رؤية حقيقية لمستقبل المنطقة، حتى أولئك المتلاعبون بمصيرها هم في أفضل الأحوال، رجال بارعون خطابيا، فاشلون استراتيجيا... هل الخطأ عند العرب أم عند غيرهم؟

يحتمل الجواب رؤى وتحليلات عدة، لعل في مقدمتها أن العرب قد ضلوا السبيل ما بين ضيق الآيديولوجيات، ومطلقية الدوغمائيات، بمعنى أن سفنهم لم تعد قادرة على أن ترسو في ميناء الدولة الحديثة، التي تباعدت كثيرا عن المذهبيات والعصبيات القبلية، والدينية، والسياسية، ولهذا عاشت أشباه الدول العربية طويلا في قوقعة الهويات القاتلة والمتناحرة، وأغفلت أن الحل تمثل في الخروج من ضيق الآيديولوجيا إلى رحابة الإبستمولوجيا، أي المعرفة، وأن حل مشاكل الشعوب لم يكن في رفع الشعارات الطنانة الرنانة، بل كان في الميثودولوجيات الخلاقة، أي الطرق الحديثة والعلمية لحل المشكلات، وانتشال الأمم من وهدة الجهل وتبعاته من الفقر الفكري والفقر المادي، عطفا على الأمراض العقلية والبدنية.

يلفت الانتباه، والعام ينصرف من بين أيدينا، ظاهرة تتأكد يوما تلو الآخر، الهجرة الطوعية والقسرية، فبعد أن كانت دول العالم العربي مراكز جاذبة للمهجرين من أوطانهم، أضحت دولا طاردة لأبنائها، البعض قصرت به الدولة العربية عن الكرامة، والآخر عن الحماية والملجأ، وهو أمر طبيعي في ظل غياب عقد اجتماعي حقيقي بين الشعوب والأنظمة.

بعد مائة عام من السعي نحو الدولة العربية الحديثة بمعناها ومبناها، يبدو أننا لا نزال في حاجة إلى الاطلاع على كتاب «جوتار ميرولا» عالم الاجتماع السويدي عن «الدولة الرخوة»، وبالقطع لا يتحدث الرجل عن الجدب المالي، إذ يؤكد على أن الدولة الفقيرة المتخلفة الجاهلة هي الدولة التي غابت عنها سيادة القانون، وأحاط التمييز بين أبنائها، أبناء الوطن الواحد، هذه هي الدولة الرخوة التي لا أمل يرجى منها، ولا مستقبل لها يتطلع إليه.

قبل نحو 4 سنوات، عرفت الثورات طريقها إلى بعض من دول العالم العربي، وخيل للبعض أن الحرية بالفعل تطرق الأبواب، وسرب إلينا آخرون مصطلح «الربيع العربي»، فهل كان الأمر على هذا النحو بالفعل؛ ربيعا تينع فيه وتزدهر ثمار الحرية وورودها، أم أن أشواك السنوات المنصرمة لا تزال تدمي النفس والجسد؟

الحال يغني عن السؤال، كما يقال، وحالة الانسداد التاريخي لا تزال هي المسيطر الأكبر على المشهد الشرق أوسطي لحين إشعار آخر، وطالما بقيت العقول قاصرة على استشراف المستقبل، سيظل التخبط هو سيد الموقف، إلى حين يأذن صانع النور وقاهر الديجور بخلاف ذلك.

وماذا عن الآخرين؟ ماذا عن أخطائهم وخطاياهم التي تدفع شعوب المنطقة أكلافا باهظة من جرائها؟

عن الغرب بشكل عام نتحدث، وعن الولايات المتحدة الأميركية بصورة خاصة، حيث أضحت مقاول الهدم لا البناء في تلك المنطقة تبعا لمصالحها الاستراتيجية، ودع عنك كل ما تتشدق به من أحاديث عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمبادئ الليبرالية، فهذه جميعها لا تستدعى إلا عندما تخدم مصالح رأس المال المسيطر، الوحيد الذي تراعى مصالحه في ذلك المجتمع الأميركي البغيض، ويبقى علينا أن نضحى مجال وحقل تجاربها.

على هامش المنتدى الاستراتيجي العربي الذي عقد في دبي الأيام القليلة الماضية تحدث المفكر الياباني الأصل، الأميركي الجنسية فرانسيس فوكاياما، عن علاقة العرب بالأميركيين، مؤكدا أن واشنطن ارتكبت خطأ كبيرا عندما اعتقدت أن دول الشرق الأوسط لا يمكنها التحرك معا من دون مساعدة أميركية، وأن على الأميركيين أن يفهموا طبيعة المنطقة قبل أن يقدموا الديمقراطية وحكم القانون، ومن أجل أن يحددوا السلطة في الدول الأجنبية فعليهم أن ينشئوا سلطة أولا في الدول الضعيفة.. هل كانت واشنطن تحديدا السبب الأكبر في تحويل الشرق الأوسط إلى إسطبلات للملك أوغياس؟

ما تكشف أخيرا في واشنطن يؤكد على أن الأميركيين استعملوا طريق القوة العسكرية، بحجة الحرب ضد الإرهاب، وقادوا العالم في طريق صراع البربريات لا صراع الحضارات، وقد لعبوا على أوتار الأديان، وبالإسلام وبحركات الإسلام السياسي بنوع خاص، مما جعل المثل الإنسانية العليا نسيا منسيا، في عصر الرأسمالية المتوحشة.

لن تفيدنا الديمقراطيات الغربية المنقولة دون مراعاة أبعاد الإدارة الاجتماعية للطبقات الشعبية، ولن تنفع الشعارات الحقوقية أمام الجوعى، ومنتهكي الكرامة، داخل البيت العربي، الذي بات أوهن البيوت حول العالم... هل الأمر مدعاة لليأس؟

حاشا لله، فطالما هناك حياة، يبقى الرجاء قائما، على أن الأمل لا بد أن يعقد بالعمل، وأمامنا أمثلة ناصعة البياض في دول شرق آسيا، لا سيما في الصين وفيتنام، تلك الشعوب التي عرفت كيف ترد على مؤامرات الغرب، وكما يحدث في التاريخ عادة بذكاء وفاعلية، بنفس قدرها المتمكن في التعاطي مع مثلث الرأسمالية العتيد الساعي للهيمنة على العالم.

الخلاصة: طرح القضايا العربية، والحديث عن المستقبل العربي، يبدأ من الذات العربية، ولا يتم استيلاده من الروح الغربية.