زيارة القدس.. تفكير خارج الصندوق

TT

الحق يقال: إنها كانت مفاجأة من العيار الثقيل، حضور الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور إياد مدني إلى مدينة رام الله الفلسطينية لافتتاح معرض بالتعاون مع وزارة الثقافة الفلسطينية، ومن المتعة تفكيك المفاجآت السارة وتحليلها.

الأمين العام للمنظمة بداية لا يمثل نفسه ولا دولته، بل يتحدث باسم 57 دولة إسلامية منضوية تحت اسم المنظمة. حضوره لافتتاح معرض «القدس في الذاكرة» أنعش ذاكرة العالم بأن لنحو مليار ونصف مسلم في العالم حقا مغيبا في أولى القبلتين، بالزيارة والصلاة، كما كانوا طوال قرون مضت. بل ودعا الأمين المسلمين إلى زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه أسوة بالحرمين الشريفين الذي يستقطب 6 ملايين معتمر سنويا.

زيارة المنظمة الإسلامية التي جاءت بعد موافقة الحكومة الإسرائيلية أثارت لغطا في العالمين العربي والإسلامي أكثر منه في إسرائيل، التي بدت مرتاحة لأن قومنا أخذوا عن كاهلها عبء الاحتجاج واستنكار الزيارة، واعتبارها نوعا من التنازل عن حدية اللغة التي كانت ترفض كل ما يؤكد تحكم إسرائيل بالأراضي المقدسة. كما أنها أعادتنا إلى المربع الأول الذي انقسمنا حوله؛ من جاء أولا.. البيضة أم الدجاجة؟ بمعنى هل التعاطي مع إسرائيل بشكل مباشر قبل عودة الحق يعد تطبيعا وتنازلا؟ أم أنه تسجيل حضور وتأكيد على حقنا التاريخي الأصيل في الأرض؟ من يعود أولا؟ التواصل والتعاطي والاحتكاك أم الحق؟ غالبا ما كانت الإجابة مائعة؛ فإن كانت هناك مواثيق دولية بين إسرائيل ودولة عربية فيعد هذا استثناء، لكنه استثناء سياسي فحسب، فمثلا حينما أعادت اتفاقية كامب ديفيد صحراء سيناء للمصريين لم يعن ذلك أنهم كانوا مرحبين بتعميق العلاقة على مستويات أخرى كالثقافة أو البحث العلمي، عدا عن حالات محدودة جدا، حتى العلاقات التجارية فيما يخص الغاز تحديدا لا يزال الكثير من المصريين لا يوافقون عليها. أما الدول البعيدة عن إسرائيل فكان إبرامها لأي نوع من العلاقات يعد عارا وانتهاكا لقيم الدين والعروبة، مهما كانت الذرائع السياسية. لهذا جاءت المبادرة العربية التي أقرت في القمة العربية في مارس (آذار) 2002 مظلة يمكن التحرك تحتها وفق خارطة طريق تحفظ الحق ولا تستعدي بالباطل.

ولنعد مرة أخرى لطرح السؤال الكبير؛ هل من مصلحة المسلمين هجران القدس لأنها تحت الاحتلال الإسرائيلي؟ أم أن زيارتها ودخولها والصلاة في المسجد الأقصى أمر ذو قيمة معنوية يتفوق على الخلاف السياسي؟

الجواب في كتب التاريخ.

بعد هجرة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، ظل فيها 6 سنوات قبل أن يعلن أنه قاصد مكة في ذاك العام لأداء فريضة الحج إلى بيت الله، وهو يعلم أن قريشا التي تسيطر على مكة وعلى سقاية الحجاج وسدانة البيت لن تدخر جهدا لصده. اتجه النبي وأتباعه حتى وصلوا إلى منطقة الحديبية، قبل مكة، وبدأت زيارات تفاوضية متبادلة بينه وبين قريش هدفها إقناعهم أنه لم يأت مكة غازيا بل أتى حاجا، وأن سيفه في غمده. تواصلت الرسائل المتبادلة بين الطرفين دون جدوى، حتى بعثت قريش الدبلوماسي الرفيع سهيل بن عمرو لمفاوضة الرسول عليه الصلاة والسلام الذي تساهل في بنود التفاوض حفظا لمصلحة المسلمين، وثقة بوعد الله له بالنصر، فكان صلح الحديبية الشهير الذي كان من أهم بنوده أن لا يدخل المسلمون مكة ذلك العام على أن يعودوا في العام الذي يليه، حفظا لماء وجه قريش أمام القبائل الأخرى.

الخلاصة، أن الرسول الكريم لم يتخذ موقفا سلبيا تجاه زيارة البيت الحرام كونه تحت إمرة الوثنيين، بل تمسك بحقه في دخول مكة وأداء المناسك، مثلما هو حق لقريش وبقية العرب. الفكرة في المبدأ، إن كنت على حق فلا تأخذ زاوية قصيا وتصيح بأعلى صوتك بأنك هنا، لن يهتم لشأنك أحد. بل افرض وجودك، بادر بالخطوة، اخلق قضية. إسرائيل سيسعدها أن لا يدخل مسلم واحد إلى المسجد الأقصى، بل إلى القدس كلها، سيسرها أن يتعنت المسلمون وأن يهجروا مسجدهم بذريعة الاحتلال كما هو حاصل في الواقع.

توافد المسلمين إلى القدس، وفق نظام زيارة لأداء الصلاة أو للسياحة ليس فقط تأكيدا على حق الديانات السماوية الثلاث في المدينة، بل أيضا سيضع إسرائيل في حرج أمام المجتمع الدولي لو منعت المسلمين من خارج الأراضي الفلسطينية من حق زيارة المسجد الأقصى الذي لا ينازعهم فيه أحد. من هو المسلم الذي لا تشتهي نفسه الصلاة في المسجد الأقصى؟ إنها أمنية صادقة، كما أنها تحمل شيئا من الشعور بالانتصار المعنوي على الظلم، ورد الاعتبار ضد التسلط.

إن كان على المسلمين هجر شيء فليتهم يهجرون الصندوق الذي حبسوا أنفسهم فيه ويجربون التفكير خارجه، ستفاجئهم مساحات الأفكار الشاسعة، وحجم الفرص الهائلة التي أضاعوها.

[email protected]