عطسة موظف

TT

لم يمنع الموظف نفسه من العطس وهو يشاهد المسرحية الاستعراضية في شمال موسكو في تلك الليلة، لكنه شعر بعدها بالحرج عندما رأى رجلا عجوزا قصير القامة يجلس في الصف الأول على المقعد الذي أمامه بالضبط، وقد راح يمسح قفاه وجمجمته الصلعاء بمنديله ويزمجر ببعض الكلمات.

كانت المأساة عندما عرف الموظف المسكين أن هذا الرجل هو مديره في الوزارة التي يعمل بها. وحاول تدارك الموقف فمال إلى الأمام وقال في أذن المدير: أرجو عفوك يا صاحب السعادة. فلقد عطست ولم أقصد أن.. وهنا قاطعه الرجل: لا تذكر شيئا.

وحاول الموظف أن يواصل اعتذاره فقال: سامحني فإني.. لم يكن ذلك من قصد. وهنا عاجله المدير: ألا تستطيع الركون إلى الهدوء من فضلك! دعني أنصت إلى المسرحية!

هنا شعر الموظف بالإحراج الشديد، وحاول أن يشاهد المسرحية مثله مثل بقيه المتفرجين، لكنه ظل فريسة لوخز الضمير. وفي فترة الاستراحة ذهب مرة أخرى محاولا الاعتذار من المدير مجددا، فرد عليه المدير هذه المرة: لقد نسيت ذلك.. ألا تريد الانصراف؟

وأزيحت ستارة ختام المسرحية، وذهب الموظف إلى بيته وراح يحادث نفسه في الطريق: يدعي أنه نسي.. إنه لا يريد أن يكلمني.. إنني لم أقصد.. كانت تلك حاجة طبيعية.

وحين وصل إلى بيته أخبر زوجته بسلوكه المشين! ونام وهو في أشد حالات القلق.

في الصباح قرر الذهاب إلى مكتب المدير، وحينما دخل عليه قال له: إذا كنت تذكر يا صاحب السعادة.. لقد عطست البارحة.. و.. و.. حدث. وفجأة رد عليه المدير: يا للحماقة! ونظر إليه وهو على وشك الصراخ في وجهه: أغرب عن وجهي. ثم أمره بالخروج.

ولشدة تعذيب الضمير لدى الموظف قرر أن يكتب رسالة اعتذار له قد يغفر له. ودخل مكتب المدير في اليوم التالي وقدم الرسالة. وهنا صرخ المدير وكل كيانه يهتز من الغضب وقال في وجهه: هذا أنت.. اخرج.. اخرج.

وعندما وصل بيته في ذلك اليوم كان الحزن قد أكل جسده، فاستلقى على الأريكة كما هو بحلته الرسمية ومات.

لم يسخر الكاتب الروسي الراحل الشهير أنطوان تشيخوف في هذه الحكاية من هذا الموظف الغلبان، لكن حكايته البليغة لها الكثير من الدلالات والمعاني.

ولعل أهمها أن هناك نوعا من البشر، ومنذ زمن بعيد وحتى اليوم، يحتقرون بشرا غيرهم، لمجرد أنهم أقل قيمة وثراء وأهمية، وأن المحتقرين يظلون مهما فعلوا محل احتقار من هم أعلى منهم.

والأهم من الاحتقار هو هذا التعذيب الكبير للضمير الذي يحمله البسطاء داخل قلوبهم، حتى في الأخطاء البسيطة والتافهة.

غير أن الحكاية الجميلة تقول لنا أيضا إن الكثير من البشر وما زالوا أيضا لا يعرفون كيف يعتذرون ولا يجيدون فن الاعتذار.