النداهة في الحدوتة الشعبية

TT

عثر على جثته طافية في مياه النيل، هو أحد أهالي القرية، معروف بأنه لا خصومة بينه وبين أحد فما الذي أتى به إلى مياه النيل وأغرقه..؟ كان التفسير الوحيد الذي لا يختلف أحد عليه من أهل القرية هو أن «النداهة» قد نادته فلبى نداءها ومشى وراءها إلى أن أغرقته في مياه النيل. وفى الأساطير الإغريقية توجد السيرينات، وهن جنيات يعشن في أعماق البحار ويتمتعن بأصوات جميلة ساحرة. من يسمعهن يفقد إرادته ويمشي وراءهن مسحورا بجمال أصواتهن إلى أن يسحبنه إلى قاع البحر. وفى أهم سجل للحكايات العربية وهو ألف ليلة وليلة سنجد قبطان سفينة يطلب من الركاب أن يقيدوه إلى ساري السفينة بإحكام، وذلك عند المرور بمكان معين ويؤكد عليهم بألا يستمعوا إلى توسلاته لهم عندما يطلب منهم أن يفكوا وثاقه، لأنه في هذه الحالة يكون فاقدا لحريته وإرادته بفعل ألحان ساحرة يسمعها وتحتم عليه أن يبحر في اتجاهها عندها يلقى جميع الركاب حتفهم.

هكذا ترى أن اللاوعي الجمعي عند الثلاث حضارات أنتج نفس الفكرة، فكرة سماع الإنسان إلى أصوات قادرة بسحرها وجمالها على دفعه إلى الهلاك. وقد تكون الفكرة مستوحاة من ظاهرة واقعية وهى مرض «الفصام» الذي يستمع فيه المريض إلى أصوات ناتجة من هلاوس سمعية قد تدفعه إلى قتل نفسه أو قتل آخرين.

أريدك أن تلاحظ أن الضحية هنا ليس ضحية لفكرة أو معتقد، فمن الممكن أن نفلت من الأفكار السيئة والمعتقدات الخاطئة وذلك في لحظات استنارة كثيرا ما يمدنا بها الوعي فيدفعنا لمراجعة أنفسنا والتخلص من هذه الأفكار والمعتقدات. بل هو يكون ضحية للإحساس الطاغي بالجمال.. وهذا هو بالضبط سحر أفكار التطرف الديني، لا صلة لها بالعقل بل هي توقف عمله وتنشط دوران غريزة العدوان على الذات وعلى الآخرين.. هناك دائما وفى كل مكان نداهة، وهناك شخص سيستمع لنداء هذه النداهة.

ولكن ما يلفت النظر في تناول ألف ليلة وليلة للحدوتة أن القبطان كان على وعي بما ستفعله به هذه الألحان كما كان على وعي أيضا بالإجراءات المضادة التي يجب عليه اتخاذها وبذلك استطاع أن ينجو هو وركاب سفينته. والسؤال هو هل كل الناس يصلحون ضحايا للنداهة؟ هل جنيات البحر أو النهر قادرات على تعطيل إرادة كل البشر وعقولهم..؟

الإجابة.. كلا وإلا لخلت الدنيا من البشر منذ زمن بعيد، لا بد أن نلاحظ أن هناك بشرا يسعدهم أن يكونوا فاقدين للعقل والإرادة، هم كارهون للحياة لعجزهم عن الإنجاز فيها، لذلك يحلمون بلحظة التخلص منها، وهنا يأتي دور النداهات. يسمون الآن زعماء الإرهاب.. يصبون في آذانهم الأغاني الساحرة فيمشون وراءهم مسحورين بغير عقل أو فهم أو إرادة إلى أن «يروحوا في ستين داهية».