وفلسطين أيضا مصدر إلهام للعالم

TT

في 29 يونيو (حزيران) من عام 2013 وصف باراك أوباما في خلال زيارته إلى جنوب أفريقيا، نيلسون مانديلا بأنه «مصدر إلهام للعالم؛ لأن النموذج الذي قدّمه لقوة المبدأ، والشعب المدافع عن حقه، سيبقى متألقا كمنارة مضيئة»، وكان مانديلا قد أمضى في سجون الفصل العنصري 27 عاما، ليصبح بعدها قلادة الحرية في العالم ومصدر الإلهام، الذي لم ولن يُلهم أوباما في شيء.

ذلك أن محمود عباس الذي يتعرض الآن مرة جديدة لتهديد يصل إلى حد التلويح بالقتل، يوجّهه إليه كل من أوباما وبنيامين نتنياهو، يرأس، كما هو معروف، شعبا يعاني الاضطهاد، ويمثل قضية تتجاوز في معاناتها نتيجة العسف الدموي الذي تمارسه إسرائيل، كل مآسي الفصل العنصري الذي تعرّض له السود الذين قادهم مانديلا في جنوب أفريقيا، فالفلسطينيون يتعرضون على يد الاحتلال الإسرائيلي للاضطهاد والقتل والتدمير والتهجير ومصادرة الأراضي منذ 66 عاما، أي ما يساوي مرتين ونصفا مدة اعتقال مانديلا.

قبل حديثه في بريتوريا عن مانديلا الملهِم وقوة المبادئ وحقوق الشعوب بـ6 أشهر، وتحديدا في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) من عام 2012، كان محمود عباس قد تلقى اتصالا مفاجئا من أوباما حذّره فيه من التقدم بطلب العضوية لفلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، جاء ذلك بعدما كان أوباما كان قد تجاهل كل وعوده الزهرية حول عزمه على أن يبدأ تنفيذ شعار «التغيير» الذي حمله إلى البيت الأبيض، عبر تنفيذ رؤية الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية!

بعد ذلك التاريخ بـ6 أشهر، وتحديدا في نهاية ديسمبر الماضي، اتصل وزير الخارجية جون كيري بمحمود عباس محاولا ثنيه عن تقديم مشروع القرار إلى مجلس الأمن، الذي يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية وفقا للقرارات الدولية ولمسلسل طويل من الوعود الأميركية ولحماسة أوباما الواهمة حيال نظرية الدولتين.

ليس مهما أن يكون أوباما قد نسي كل وعوده الزائفة وما تلقّاه من هجمات اللوبي الصهيوني، ولا مهما أن يكون كيري قد تناسى أنه زار فلسطين 11 مرة في محاولة لانتشال التسوية السلمية من الفشل، وحصد الفشل دائما، تماما مثل هيلاري كلينتون وكوندوليزا رايس، بسبب رفض بنيامين نتنياهو وزمرته الالتزام بالقرارات الدولية، المهم أن الإدارة الأميركية تنخرط مرة جديدة في شراكة فظة مع تل أبيب لخنق الفلسطينيين وإنكار حقوقهم البسيطة التي أقرّتها كل القرارات الدولية من القرار 242 والقرار 338.

الآن بعدما أفشلت أميركا مشروع القرار الفلسطيني وبعدما رد أبو مازن بالتوقيع على 20 صكا للانضمام إلى منظمات واتفاقات دولية، أبرزها محكمة الجنايات الدولية، انهالت التهديدات الأميركية والإسرائيلية عليه محذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكن الفلسطينيين الذين خسروا كل شيء وفقدوا كل أمل بإمكان التوصل إلى تسوية عادلة مع إسرائيل، واستنتجوا أن واشنطن لا ترغب فعلا في القيام بدور «الشريك الكامل» في الحل، كما زعمت دائما، «لن يسمحوا باستمرار الوضع على ما هو عليه»، كما أعلن صائب عريقات وهو يسلّم صكوك الانضمام إلى الأمم المتحدة.

ملف الاستيطان هو الأساس فيما يتعلّق بمحكمة الجنايات الدولية، وإذا كانت وقاحة إسرائيل تدفعها إلى القول إن ذهاب أبو مازن إلى مجلس الأمن عدوان عليها، إلا أنه يمارس حقه القانوني الحضاري، فمن المفترض أن الجرائم التي ارتكبت بحق الفلسطينيين من اغتيالات واستيطان وقتل وهدم وعدوان لن تسقط بمرور الزمن، وعلى المحتلّين أن يتحملوا مسؤولياتهم.

لكن قمة الجريمة الإسرائيلية تلتقي مع قمة السذاجة الأميركية، ليس في توجيه تهديد إلى أبو مازن يمكن أن يعرّضه حتى للاغتيال فحسب، بل في اتخاذ قرارات عنصرية بتجويع الفلسطينيين، إن من حيث وقف المساعدات الأميركية، أو من حيث حجب إسرائيل حقوق السلطة الفلسطينية من ضريبة المعابر، وهو الأمر الذي يتكرر مرة جديدة ردا على توقيع صك الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية، التي ترفض أميركا وإسرائيل الانضمام إليها، والمثير أن واشنطن لم تتوقف ولو قليلا أمام قول صائب عريقات: «إن على أميركا أن تتأمل جيدا في موقفها، على الأقل لأنه كلما زادت الدول قوة زادت مسؤولياتها، ومن يرد أن يهزم الإرهاب في هذه المنطقة فعليه أن ينهي الاحتلال الإسرائيلي».

المثير أن تعتبر واشنطن أن التحرك الفلسطيني «ليس بنّاء أو مفيدا»، وأن مشروع القرار إلى مجلس الأمن «يضع جدولا زمنيا اعتباطيا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي... ولا يأخذ حاجات إسرائيل الأمنية في الاعتبار»، وأن قيام دولة فلسطينية في حد ذاته عاصمتها القدس الشرقية إجراء يهدد الأمن... هكذا بالحرف، ولكأن ربع قرن من الجهود الدبلوماسية الأميركية كانت بنّاءة، أو لكأن كل المساعي المبذولة مع الإسرائيليين للتوصل إلى تسوية عادلة ومقبولة لم تكن مجرد جهود اعتباطية بعدما أقفلت كل الأبواب في وجهها، ثم إذا كانت المعايير التي يُراد لأي تسوية أن تستند إليها تخضع لشروط الأمن الإسرائيلي، فمن العبث الحديث عن التسوية!

ذلك أنه من الواضح والمفهوم أن إسرائيل ترفض قيام دولة فلسطينية لأنها ستنقض سيكولوجيا شرعية الدولة الإسرائيلية ومشروعيتها، ولهذا تريد إبقاء الفلسطينيين مجرد كتلة من المعتقلين في «أوشفيتز فلسطيني»، وهنا تبدو آثام واشنطن أكبر وأعمق بكثير من جرائم إسرائيل، على الأقل لأنه من الواضح، في هذا السياق، أن المقصود هو إزالة فلسطين من الجغرافيا والتاريخ، ولهذا لن تقبل إسرائيل أبدا بقيام الدولة الفلسطينية، ولن تقوم واشنطن بالضغط الكافي عليها لتستجيب للقرارات الدولية التي تدعو إلى إعطاء الفلسطينيين دولتهم وحقوقهم الشرعية!

مسخرة المساخر أن أوباما اتهم أبو مازن في 4 ديسمبر من عام 2012 بأنه مارس «الإرهاب السياسي الفلسطيني» بعدما نجح في الحصول على مقعد مراقب للدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومسخرة المساخر أنه كان قد وجّه إليه تهديدا وصل حد القول حرفيا: «إن ذهابك إلى الأمم المتحدة سيجلب لكم الكثير من المتاعب، ويمكن أن يخنقكم اقتصاديا، وقد يتسبب بحرب نووية». ومسخرة المساخر أيضا أن يكرر الآن تهديداته بخنق الفلسطينيين وبتجويعهم تماما كما يفعل نتنياهو!

ولكن بعد 66 عاما من الاحتلال العنصري، وفي ظل الاعتراف الغربي المتزايد بالدولة الفلسطينية، ستكون فلسطين أيضا مصدر إلهام للعالم شاءت واشنطن وتل أبيب أم أبتا!