الألفيون!

TT

من أهم عناصر تشكيل الاقتصاد في الدول الصناعية الكبرى، القوة المؤثرة لفئة عمرية بعينها، ولعل أشهر هذه المجاميع المؤثرة في الغرب مجموعة «المواليد الجدد» التي تكونت بعد الحرب العالمية الثانية بعد عودة الجنود «منتصرين ومنتشين»، فساهم مواليدهم في تطوير قطاعات الإسكان والتعليم والمواصلات والسيارات والطائرات والموسيقى والسينما والأدب والملابس والترفيه. ثم جاءت فئة عمرية ظهرت في حقبة السبعينات والثمانينات في بدايات عصر النقلة الجديدة في التقنية بولادة الحاسب الآلي الشخصي وزيادة «الفردية» في النواحي الاجتماعية، وانتشار حملات الحقوق وما بات يعرف بـ«اللائق سياسيا». والآن لا حديث في المجتمعات الغربية وشركاتها العملاقة إلا عن جيل الألفية أو ما بات يعرف بـ«الألفيين»، ولعل أهم ملامح هذا الجيل هي قدراتهم ودرايتهم العالية بالتقنية الحديثة، والحس والإدراك الاجتماعي المميز والتفكير الأناني الواضح، وهذه الصفات كانت لها نتائج واضحة الملامح على صعيد عالم الشركات والاقتصاد، ومن أبرزها إجبار الشركات على استحداث مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت للترويج والتواصل والتعريف عن نفسها مع عملائها، هذا كان نتيجة الدراية والبلاغة المميزة في مجال التقنية العالية. أما بخصوص الحس والإدراك الاجتماعي وأثره فيكون بأنه يزيد من الإدراك الاجتماعي، وبالتالي الالتزام ببرامج المسؤولية الاجتماعية الناجحة والحذر من الخطأ في التعامل، وحفظ حقوق الإنسان والأقليات والعمال والموظفين وعدم التمييز والتفرقة، كما حصل مثلا مع شركات مثل «نايكي» و«غاب» في استخدام ورشات للعمل بلا أجور أشبه بملاجئ العبيد كشفت عنها وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة فأوقفتها بسرعة، وأجبرت الشركات على الاعتذار.

أما بخصوص صفة الأنانية فلها وجهان؛ الوجه الاجتماعي والوجه الاقتصادي. أما الوجه الاجتماعي فنراه في الاستخدام المتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي بكثافة وخروج ظواهر غريبة، لعل أشهرها وأكثرها انتشارا هو التصوير الذاتي بجهاز الهاتف الجوال المعروفة باسم «السيلفي». أما على الصعيد الاقتصادي، فيظهر في تغيير الشركات للمسار المهني لموظفيها ليصبح أكثر جاذبية وقبولا لجيل «الألفيين»، لأن لديهم اهتماما أعمق وأكبر بتحقيق المنافع الشخصية لهم أولا، وبعد ذلك تأتي المنافع الخاصة بالشركة التي يعملون فيها، وهذا تماما عكس ما كانت عليه فئة «المواليد الجدد»، وهو تجسيد حقيقي لقيمة النرجسية التي ترتبط مع الأنانية في هذه الفئة العمرية والتي تنحصر في مواليد فترة الثمانينات حتى الألفية، وهم يدخلون الآن أسواق العمل بكثافة، ويشكلون الذوق العام الجديد بقوة في أكثر من قطاع.

اليوم الشركات جميعها تستعد وبجدية للتعامل الواقعي مع طلبات وتبعات هذه الفئة العمرية (الألفيين)، لأنهم دون أدنى شك يعتبرون الفئة العمرية الأكبر من الناحية الديمقراطية، وبالتالي تبعات قراراتهم لها صدى، وعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة وحدها سيكون أكثر من 75 في المائة من الموظفين العاملين من الفئة العمرية «الألفيين»، وهذه نسبة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها نسبة مؤثرة وعظيمة جدا.

على الشركات توقي الحذر فإذا لم يُستعد لهذه الظاهرة بشكل جدي ومحترم فستتحول ظاهرة «الألفية» بوعودها وأحلامها وطموحاتها من نعمة إلى نقمة بإحباطاتها وغضبها وأساها.