الإرهاب في فرنسا: ليسوا منا

TT

دخل الإرهاب في العالم مرحلة جديدة عندما فجعت فرنسا بسلسلة من الأعمال الإرهابية العنيفة التي هزت وجدان الرأي العام الفرنسي والأوروبي والعالمي.. تلك الأعمال التي لم تعرفها فرنسا منذ عدة عقود من الزمن وبذلك نقول إن الإرهاب بلغ أقصاه في العالم، ذلك لأن فرنسا هي بلد النور والحرية والسلام والاعتدال في المواقف السياسية ولا يتوقع أحد أن يضربها الإرهاب بهذا العمق.

ولقد كانت فرنسا عاصمة الثقافة في العالم، فلقد تخرج من جامعاتها كثير من قادة الفكر والتنوير العرب مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما من المفكرين العرب، ولها خصوصية في علاقاتها السياسية مع الدول العربية بحيث تختلف عن بقية الدول الأوروبية الأخرى، وفي ثقافتها ومضات من ثقافة الشرق حتى تكاد تكون هي أقرب إلى حضارة الشرق منها من حضارة الغرب، ومما يدل على أن فرنسا هي بلد التسامح وحرية الأديان ما صدر عن قادتها عندما حدثت أعمال الإرهاب الأخيرة في فرنسا حيث لم يصدر من قادتها تهديد ووعيد، فأول ما تم الإعلان عن الحادث دعا الرئيس الفرنسي شعبه إلى التصرف بعقلانية ولم يتصف رد فعل الرأي العام في فرنسا بالعنصرية ضد أصحاب الأديان وخاصة الدين الإسلامي إنما بالعكس، فلقد دعا المفكرون والكتاب الفرنسيون إلى عدم الخلط بين أعمال الإرهاب التي حدثت والوجود الإسلامي في فرنسا، إذ كتبت أولفا عليوني، وهي خبيرة اقتصادية في اللجنة الأوروبية، في جريدة «ليبراسيون»: «في كل مرة يقع حادث بربري باسم الله نأمل ألا يمزج بين فئة صغيرة من المجرمين المجانين وغالبية السكان الذين يعيشون بسلام ويدلون بأصواتهم ويدفعون ضرائبهم وينصرفون إلى ممارسة أعمالهم»، وفي جريدة «نيويورك تايمز» كتب نيكولاس كريستوف «الأحداث الإرهابية الأخيرة دفعت عددا من الغربيين إلى اعتبار الإسلام هو المسؤول عن التطرف. لكنني أعتقد أن هذا التفسير ساذج وسطحي، فقد يحتل عدد قليل من الإرهابيين العناوين الأولى لكنهم لا يستطيعون أن يمثلوا ديانة يبلغ عدد أتباعها 1.6 مليار».

وبالمقابل وبعد انتشار خبر الهجوم، أدان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية هذا الهجوم الذي شنه متطرفون على مجلة «شارلي إيبدو»، ووصف هذا الحادث بأنه «عمل بربري ضد الديمقراطية وحرية الصحافة». وأصدرت الهيئة التي تعتبر أكبر الجمعيات الممثلة للمسلمين في أوروبا، ويتراوح أعضاؤها بين 3.5 مليون و5 ملايين عضو، بيانا باسم مسلمي فرنسا لإدانة هذا الحادث. إن ديننا الإسلامي يدين قتل النفس حيث يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه: (مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا).

يجب ألا ننسى أن في فرنسا تعيش أكبر جالية عربية من دول المشرق والمغرب العربي ويتمتعون بكثير من الحقوق المدنية التي لا تقل عن بقية الجاليات الأخرى.

أما من حيث مواقف فرنسا من القضايا العربية فلقد تميزت مواقفها بالمصداقية، حيث شهدت العلاقات العربية الفرنسية في عهد الرئيس ديغول تطورا كبيرا حيث صرح الجنرال ديغول بذلك في أحد المؤتمرات قائلا: «آن الأوان لنستأنف مع الشعوب العربية في المشرق، نفس سياسة الصداقة والتعاون التي كانت عليها سياسة فرنسا في هذا الجزء من العالم منذ عدة قرون. نعم كانت سياسة صداقة، إذ أن العقل والمشاعر يتطلبان أن تكون هذه السياسة، اليوم، هي القاعدة والأساس لجوهر سياستنا الخارجية». وكذلك دافع الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران أمام البرلمان الإسرائيلي عن مبدأ قيام الدولة الفلسطينية. وكانت دول المجموعة الأوروبية آنذاك قد شددت فيما عرف بـ«بيان البندقية» عام 1980 على ضرورة إشراك منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات السلام.

وشاركت فرنسا عام 1982 في إخراج ياسر عرفات عبر البحر عندما كان محاصرا من قبل القوات الإسرائيلية في بيروت.

وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2004 قبلت فرنسا بمعالجة الرئيس الراحل ياسر عرفات في أحد مستشفياتها.

وكان لفرنسا أيضا مواقف من القضايا العربية من أهمها دورها بعد أحداث سبتمبر (أيلول)، 2001، وبعد الرد الأميركي الصاعق في السياسة وفي الميدان، وبعد وضع حرج فرضه كون غالبية المهاجمين تحمل الجنسية السعودية. جاءت مبادرة اختراق الحرج من جانب الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي زار السعودية، بعد أن سبقه إليها وزير خارجيته هوبير فيدرين.. لقد قام شيراك بما يشبه الوساطة بين الأميركي والسعودي، ففتح حوارا حول التعاون ضد الإرهاب، ومساهمة السعودية في هذا الجهد، وكانت خلاصة المسعى سياسة مشتركة تحقق المطالب الأميركية، ولا تكسر هيبة الدولة السعودية.

وفي 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 صوت النواب الفرنسيون في الجمعية الوطنية على مشروع قرار يطالب باريس بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتمت صياغة مشروع القرار وتقديمه من قبل الأغلبية الاشتراكية الحاكمة. وكان التصويت (بنعم) قد حمل في طياته دعما كاملا للقضية الفلسطينية.

ولذا المطلوب من كل المثقفين في العالم العربي أن يعلنوا للعالم أن الإسلام بريء من مثل هذه الأعمال الإرهابية.