لا تراقبوا الناس.. راقبوا أفكارهم

TT

العالم كما يظهر لم يستوعب بعد حجم موجة الإرهاب. لا أحد بمنأى عن هذا الخطر، ما دامت حواضن المتطرفين في سوريا والعراق وليبيا واليمن قائمة، وما دام التلكؤ في التعاطي معهم هو العنوان العريض لهذه المرحلة العصيبة. ضعف استخباراتي، تردد أمني، نعومة في التشريعات والقوانين التي تجرم، وتساهل حكومي مع مصادر التلوث الفكري المنتشرة في كل دول العالم. بالمحصلة نحن أمام أكبر تحد أمني يواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

مثال بسيط يؤكد هذا الواقع؛ شريف كواشي الإرهابي الذي شارك في مذبحة مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية أدين قبل خمسة أعوام بتهمة تجنيد الشباب في فرنسا لإرسالهم إلى العراق، وحكم عليه بثلاث سنوات في السجن! ثلاث سنوات فقط هي عقوبة تجنيد الشباب، رغم أنها أشد خطرا من توزيع الهيروين، فالمخدرات تنهي حياة شخص واحد، أما تجنيد الشباب فهو يقضي على حياتهم وحياة غيرهم. مع ذلك لم يتم المتهم محكوميته كلها بل أطلق سراحه بعد 18 شهرا! ربما لحسن سلوكه..

الظاهرة التي نراها اليوم أن منفذي الاعتداءات الإرهابية في أكثر من حادثة كانوا فعليا في قبضة الأمن في يوم ما، أو أنهم في القوائم السوداء، ومع ذلك تم تسريحهم، وكانوا يتواصلون بحرية مع قياداتهم في التنظيمات المتطرفة، ويتنقلون بأمان بين الدول بما فيها ساحات الصراع في اليمن وسوريا والعراق، ثم يعودون لبلدانهم بكل سلاسة ليرتكبوا جرائمهم. في موضوع الإرهاب يفترض أن يتساوى المشتبه به مع المثبتة عليه التهمة. يقول أحد المحللين السياسيين الفرنسيين «هل تريدون من فرنسا أن تصبح دولة بوليسية؟ هل تطلبون من الأمن الفرنسي أن يضع شرطيا لمراقبة 65 مليون مواطن فرنسي؟ الجواب، لا يا سيد، لا تراقبوا ملايين الناس، بل راقبوا أفكارهم، أفكار الإنسان مثل رائحته، تدل عليه حتى وإن كان بعيدا. وحينما تظهر لكم أعراض الإصابة بداء التطرف فلا تعالجوها بكريمات «شانيل» و«ايف سان لوران»، بل أغلظوا عليهم، بالرقابة، والمتابعة، والقوانين الصارمة، التي تستوعب خطر تشكيل الخلايا المتطرفة واستقطاب الشباب والاتجار بهم لحساب رجل الأعمال أيمن الظواهري أو منافسه البغدادي.

أشفق على أئمة المساجد في الغرب؛ كلما وقعت حادثة من متطرفين سارعوا للظهور في وسائل الإعلام يبرئون ساحتهم وساحة الإسلام. وهذا فعل صائب، إنما الواقع أن مساجدهم كانت وبكل أسف غرفة اجتماعات للخلايا المتطرفة، وفصلا دراسيا لتلقي التوجيهات وغسل العقول، بجهل من القائمين على هذه المساجد والمراكز الإسلامية.

ادخلوا إلى موقع «تويتر» في أي لحظة، ستجدون في كل مرة تغريدات تبث كراهية الغرب، وتؤلب الشباب على حكوماتهم، وتحفزهم للخروج لـ«الجهاد»، وتمنّيهم بالسراب. تغريدات من كل بلد عربي، صريحة واضحة أمام أعين السلطات التي لا تحرك ساكنا إلا القليل. وما خفي عن الأعين أعظم، اليوم أصبح برنامج «سكايب» وأقرانه وسيلة تواصل وبث لأفكار خطيرة، منها تنطلق الأفكار الخبيثة للشباب الصغار، ويتواصل خلالها العناصر المتطرفة حول العالم، من ديوانية في الكويت، أو مزرعة في السعودية، أو فندق في لندن، أو مضيق بحري في اليمن.

كنا نقول دائما إن علاج الإرهاب هو في تنظيف أفكار الناس، من خلال تنظيف المساجد والمدارس والسجون من مصادر التطرف، وهذا صحيح على المدى الطويل، إنما على المدى القصير فهناك ضعف في كل الأجهزة المعنية بالتعاطي مع الأحداث الإرهابية، وتعمد سياسي لتحويل اليمن وسوريا لأكبر مفرخة للإرهابيين، والآن يتم تجهيز ليبيا للحاق بهم.

كانت فرنسا تنتقد قوة القبضة الأمنية على الإرهابيين في شبه جزيرة سيناء، وكان الرئيس السيسي في بداية تطهيره لشبه الجزيرة يحاول إقناع الغرب بأنه بحاجة للدعم السياسي واللوجستي للقضاء على الإرهاب، حتى تيقنوا بعد إعلان «داعش» سيناء ولاية إسلامية. وقبل يوم من حادثة «شارلي إيبدو» دعت الخارجية الفرنسية مملكة البحرين لإطلاق سراح أمين عام منظمة الوفاق المدان بالتحريض على العنف. عسى أن تكون فرنسا فهمت الدرس جيدا، وأن الفرنسيين الاثني عشر الذين قتلوا ليسوا أعلى قيمة عند قومهم من قتلى الجيش المصري أو البحريني. ومع التقدير للمسيرة الشعبية المليونية في فرنسا التي أدانت الإرهاب ودعمت الحكومة، إلا أن الحادثة كشفت عيوبا أمنية وتشريعية في مكافحته، ونفاقا سياسيا من دول ضليعة أو معينة أو جسر عبور للإرهابيين جاءت تتباكى بدموع التماسيح على بضعة قتلى.

من جهة النقطة الحساسة المتكررة حول نشر رسومات مسيئة للرمز الإسلامي الكبير الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو بكل تأكيد أمر مستفز لستة ملايين فرنسي مسلم، منهم الطبيب والجندي والمعلم، ومليار ونصف المليار مثلهم حول العالم، لكنه أبدا ليس ذريعة للعنف، بل تستغل مثل هذه الممارسات لتبرير الجريمة وتمريرها. إنما الدول العلمانية ترى أنها من جهة أخرى تمنح الحرية لإنتاج أدبي وفني يفكك أصول العقيدة المسيحية ويجحد مبادئها، ويطعن في قيمها، ومع ذلك لا تجد من المسيحيين هذه الغضبة. هذه قناعتهم، ولكن حرية التعبير يجب أى تكون وقودا للعنصرية التي لا تقل خطرا عن الطائفية في تدمير المجتمعات. قبل شهر رحبت منظمات مناهضة للعنصرية بقرار قناة تلفزيونية فرنسية إيقاف بث برنامج للإعلامي والكاتب الفرنسي المعروف إريك زمور، بسبب معاداته الصريحة للإسلام. في هذا دلالة أن قضايا الحريات ليست محسومة في فرنسا بل تخضع للجدل إن مست النسيج الاجتماعي.

أريد أن أختم بمقولة ظريفة منسوبة للكاتبة البريطانية مؤلفة سلسلة روايات «هاري بوتر» جوان رولينغ، ردا على تغريدة رجل الأعمال الأسترالي روبرت ميردوخ، التي قال فيها: «ربما معظم المسلمين مسالمون، إلا أنه حتى يدركوا ويدمروا سرطان المتطرفين الذي ينمو بينهم، يجب أن يتم تحميلهم المسؤولية». أخذت «رولينغ» عنا عبء الرد على هذا الهراء وقالت في تغريدة: «لقد ولدت مسيحية، وإذا كان هذا يجعلني مسؤولة عن روبرت ميردوخ، فسأنفصل تلقائيا»..

[email protected]