كل من ما يصطف ما يلعب!

TT

أتحفنا المركز الثقافي العراقي في لندن قبل أيام بعرض فيلم «بين الضلوع»، والاسم اشتقاق بليغ من المعركة التي دارت مؤخرا في العراق للدفاع عن بلدة «الضلوعية» ضد «داعش». سمع مدير المركز، الدكتور عبد الرحمن دياب بما جرى، فهزه الموضوع، ولا عجب، فهو من أبناء المنطقة غرب العراق. حمل كاميرته السينمائية ورحل إلى هناك، وأنتج وأخرج وصور هذا الفيلم الوثائقي للمعركة. وأحسن فيما صنع، فهذه معركة دفاعية بطولية يجب ألا تصور فقط، بل ويجب أن تسجل في ذاكرة كل العراقيين، بل وكل العرب والمسلمين.

زحف تنظيم «داعش» على هذه البلدة متوقعا استسلامها بسهولة، فسكانها من السنة، وهو يدعي أنه جاء لتحرير السنة ونصرتهم. بيد أن سكان الضلوعية لم ينطل عليهم ذلك، وسبق أن سمعوا بما يفعله «داعش» في أي مدينة يدخلها، فيستبيح ويسبي نساءها، ويذبح رجالها، وينهب مالها وحلالها، وينسف كل ما فيها من آثار.. هبوا للدفاع عن مجتمعهم الزراعي البسيط، وقاتلوا قتال الأبطال في صد العصابة الأثيمة. شاهدنا في الفيلم شبابهم يتحصنون وراء الجدار الساتر ويردون على النار بالنار من بنادقهم البسيطة. وتجمعت النسوة يخبزن الخبز للمقاتلين، وراح الصبية يتراكضون.. يحملون الطعام لهم.. كانت معركة شعبية بمعنى الكلمة.

سمع إخوانهم الشيعة من جنوب العراق فأسرعوا للانضمام لهم، فاكتسبت المعركة صبغة وطنية شاملة للدفاع لا عن الضلوعية فقط، بل وعن الوطن كله.. رأينا الكثير من الأعلام العراقية خفاقة فوق بيوت هؤلاء الفلاحين البسطاء.

انطلقت المرأة الضلوعية تزغرد وتهتف بالشباب ليصطفوا في صفوف المدافعين وتحمسهم في القتال، وتنشد:

كل من ما يصطف ما يلعب!

وتجمع القوم ليرقصوا رقصة الحرب «الجوبي» (الدبكة) لينطلقوا ويصطفوا بأسلحتهم وراء الساتر. دوت أنغام المزمار (المطبك) لتختلط بهلاهل النسوة وإيقاع المنشد:

ما نهتم ننثر دمايا

كلنا نسوق الموت سواقه

عالساتر نادت مؤودة

وخل «داعش» عالحد لا يقرب

يدلل بالروح دلاله

والقناص يلوح قباله

ويخسون الرجال الذلالة

وعَ الشاطي يدورون المركب

وكل من ما يصطف ما يلعب!

من لا يلتف حول وطنه لا حصة له من خيراته. شعرت بكل بدني يختض، وما بقي من شعر رأسي يقف حماسا لسماع هذه الأنشودة الوطنية تنطلق من حنجرة الفلاح العراقي في ساحة المعركة دفاعا عن أرضه وعرضه. لا بد لمقطوعة الدبكة هذه أن تخلد في الأذهان والوثائق الوطنية، تعبيرا عن وحدة الشعب العراقي وعزمه على التمسك بهويته وهوية بلاده.. وخسئ المشككون والمفرقون.