الصيد في الإرهاب العكر

TT

يحلو للكثيرين الصيد في كل ما هو عكر رغم أن المياه العفنة العكرة، لا يمكن أن يعيش فيها ما يتمتع بالسلامة والصحة وما يستحق عناء الصيد.

نفس المقاربة، تبدو لنا مناسبة جدا لتلك الأصوات، التي تعالت في فرنسا إثر مجزرة مجلة «شارلي إيبدو»، منددة بالعرب والمسلمين، مع محاولة الترويج لاتهامات بغيضة ضد الإسلام وضد الجالية الإسلامية في فرنسا والمسلمين الحاملين للجنسية الفرنسية والمهاجرين العرب في أوروبا بشكل عام.

وفي الحقيقة، فإن الإسراع عمدا إلى استثمار وقع الصدمة على المجتمع الفرنسي من خلال تكريس مضامين الخطاب المشار إليه، إنما يصب ضمن سلوك سياسي نفعي محض، يزيد في تأجيج حطب الإرهاب ويؤسس لعلاقات متوترة دائمة ومتزايدة بين ما يسمى في المعجم الحضاري: الأنا والآخر. وبأكثر وضوحا، فإننا نقصد بالذات اليمين المتطرف في فرنسا، الذي يمثله السيد جان ماري لوبان وابنته مارين لوبان (حزب الجبهة الوطنية الذي تأسس منذ 1972 والذي تمكن رئيسه جان ماري لوبان عام 2002 من الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في فرنسا)، وهما معروفان بموقفهما الرافض للوجود العربي الإسلامي في فرنسا وبدعوتهما الدائمة إلى التشدد إزاء هجرة المسلمين إلى فرنسا ومنحهم الجنسية الفرنسية وغير ذلك من الدعوات التي تجمع كلها على رفض الإنسان العربي المسلم على أرض فرنسا.

ودليلنا على ما ذهبنا إليه هو الموقف السريع جدا الذي أبدته مارين لوبان، مباشرة بعد الفاجعة التي عرفتها مجلة «شارلي إيبدو» وفرنسا وأوروبا والإنسانية ككل. ففي الموقف الذي سارعت إلى التعبير عنه، تم التحدث عن «الإرهاب الإسلامي» رغم أن توقيت هذا التصريح كان مبكرا جدا ويفتقد – أي الموقف - الحد الأدنى من المعطيات والمعلومات. وهو ما يؤكد ما وصفناه بالتوظيف السياسي النفعي الضيق للحادثة ومحاولة ممارسة ضغط على النخبة الحالية الحاكمة في فرنسا وتضييق الخناق عليها وإجبارها على تبني إجراءات ضد المسلمين أشبه ما تكون بتصفية رمزية مقنعة.

طبعا الحادثة هي بكل المقاييس فاجعة ومجزرة مرعبة، وكل من يحمل الحد الأدنى من الإنسانية، فهو يرفضها ويدينها ويشجبها.

ولا نعتقد أن اليمين المتطرف ومن يمثله من ساسة فرنسا ومفكريها وإعلامييها وحتى تيار اليمين، الذي تبنى بدوره موقفا راديكاليا من خلال دعوته إلى فرض حالة الطوارئ، يؤمنان حقيقة أن الأخوين كواشي، يعبران عن جوهر الإسلام وقيمه.

لذلك، فهم جميعا يدركون أن الأخوين كواشي والتنظيم الإرهابي الذي ينتميان إليه والتنظيمات الأخرى المكونة للمجال الإرهابي العالمي، إنما هي تنظيمات للمرضى النفسانيين ولأشخاص منفصلين عن ذواتهم وعن الآخرين لأنهم يعانون من عدم الاندماج الاجتماعي.

ولا يختلف الانسياق وراء هؤلاء المرضى وبناء خطاب ضد ربع سكان العالم – أي المسلمين - على أنقاض جرائم لا تلزم سواهم، كثيرا عن جرائمهم ويمكن أن يكون أقسى، لأنه صادر عن نخب بلد الحرية والثقافة العريقة والقانون.

من جهة أخرى، الصيد في الإرهاب العكر، فيه اعتداء صارخ على القانون الفرنسي نفسه من خلال العنف الرمزي، الذي يمارسه اليمين المتطرف واليمين الذي كان معتدلا قبل حادثة «شارلي إيبدو» على مسلمي فرنسا وتحديدا من يحملون الجنسية الفرنسية أي فئة من المواطنين الفرنسيين. ومن ثمة، فإن خطاب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند حول الوحدة الوطنية وضرورة التمسك بها في هذه الأزمة، يصبح خطابا مخترقا ومتمردا عليه من قِبل اليمين المتطرف الفرنسي، وهو ما يزيد في أزمة مسلمي فرنسا وخصوصا أبناءهم الذين يعانون أصلا من أزمة هوية. وها هي حكمة اليمين المتطرف، تسهم بسخاء في تعزيز البيئة الحاضنة للإرهاب في فرنسا وفي غيرها من بقاع العالم الأوروبي وغيرها.

وإلى جانب اعتداء موقف اليمين المتطرف واليمين «المعتدل» على فئة تدخل في إطار الوحدة الوطنية الفرنسية، فإنه حتى من باب مقاربة حقوقية، تبدو تصريحات لوبان بما تستبطنه وتظهره من عنف رمزي، بمثابة اعتداء صارخ على حقوق مسلمي فرنسا وكرامتهم وحريتهم الدينية. في مقابل ذلك، ربما ما يجعل محاولات الصيد في الإرهاب العكر أقل وطأة رغم أنها جاءت لتذكي تصاعد الفوبيا ضد الإسلام والعنصرية ضد المسلمين، هو ما أبدته الرئاسة الفرنسية من موقف رصين وذكي وحذر على لسان رئيس حكومتها الذي قال حرفيا، إن الحرب ضد الإرهاب وليست ضد دين. ولم تتورط الدولة الفرنسية في تصريحات كراهية للإسلام مكتفية بالقول إنها ستتخذ إجراءات جديدة للتصدي للتهديد الإرهابي، بمعنى أن الإرهاب هو المفهوم الرئيسي لخطاب الدولة الرسمي ولم يرد أي جمع دلالي بين الإرهاب والإسلام. ومن ثمة، فإن الموقف الدبلوماسي للدولة الفرنسية، تميز بالرصانة والحذر وفيه مراعاة دبلوماسية لمواقف الدول الإسلامية، التي لم تدخر أي جهد في التنديد بالمجزرة التي عاشتها فرنسا.

إن الصيد في الإرهاب العكر ومياهه العفنة، فعل ضار بالمجتمع الإنساني ككل لأن الحرب ضد الإرهاب كما رأينا وعشنا طيلة السنوات الماضية حرب مختلفة ومجنونة، وطبيعة هذه الحرب أنها لا تخضع لقواعد الحرب الكلاسيكية وتخترق الأجهزة الأمنية الهشة تماما كما القوية ولنا في الاعتداء على أقوى دول العالم الولايات المتحدة المتمثل في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حجة قوية.