خالتي فرنسا..

TT

بالنسبة للعالم الغربي تعتبر فرنسا بلدا له رمزية بالغة الدلالة والأهمية، فالغرب يعتبر فرنسا أيقونة الحريات والفكر التنويري، منها قامت أشهر الثورات على الاستبداد والظلم ومنها انطلقت جمهورية ودستور يحمل شعارا إنسانيا خالدا «مساواة، حرية، أخوة»، حق الفكر الحر مكفول دستوريا ولتأكيد فكرها أهدت الولايات المتحدة تمثال الحرية الذائع الصيت. وتأثر بالفكر الدستوري الفرنسي عمالقة الآباء المؤسسين للدستور الأميركي من أمثال توماس جيفرسون وبنيامين فرانكلين.

الثقافة الفرنسية اعتزت تماما بفكرة حرية التعبير كما قال في ذلك فيلسوفها الأشهر الكبير فولتير حينما قال: «مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحريتك في الدفاع عن رأيك». وإلى فرنسا شد الرحال دوما الكثيرون من فطاحلة الكلمة والأدب والسياسة من أمثال ميلان كونديرا من التشيك وجيمس بالدوين من الولايات المتحدة ومحمد أركون من الجزائر والطاهر بن جلون من المغرب، وجاء إليها طلبا للعلم رفاعة الطهطاوي وطه حسين، وهاجر إليها أمين معلوف، واستقر فيها لروح الإبداع في عالم الأزياء والموضة كنزو الياباني ونينا ريتشي وفرانشيسكو سمالتو ونينو شيروتي وبيرلوتي وكلهم من إيطاليا.

الذوق والأناقة والطعام والتصميم إبداع فرنسي مميز، وهو لا يمكن أن يكتب له النجاح إلا في جو فريد من الحرية وضماناتها، ولذلك تميزت فرنسا بخطها الحر والجريء في مناصرة قضايا الحقوق، فخرجت منها أهم منظمات الدفاع عن حقوق الحيوان ومنظمات مثل «أطباء بلا حدود» وحقوق الأقليات، ولكنها أفرزت أيضا أسماء متألقة في عوالم التميز الفردي مثل كريستيان ديور وكوكو شانيل وإيف سان لوران في مجال الأزياء، وهناك أهم اسمين في عالم الطهي الراقي هما آلان دوكاس وجويل روبوشون. وهل يمكن لأحد أن يتحدث عن الفلسفة المعاصرة دون ذكر الفيلسوف الفرنسي الكبير سارتر؟ ولا الفنون التشكيلية دون الحديث عن مونييه وجوغان وغيرهما؟ والحديث عن المتاحف لا يمكن أن يمر دون أن يذكر متحف اللوفر أيقونة الإبداع الإنساني، والحديث عن الجامعات لا بد أن تذكر فيه جامعة السوربون أيقونة الفكر والعلم.. كل ذلك وأكثر جعل من باريس عاصمة النور كما يحلو لمحبيها أن يسموها.

هذه خلفية مطلوبة لمعرفة وفهم حال الفرنسيين وتعاطيهم المصدوم من حادثة اغتيال رسامي الكاريكاتير في مجلة «شارلي إيبدو» الأخيرة، لأجل استيعاب ثقافتهم وتفهم موقفهم (بغض النظر عن وقاحة الرسوم بحق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)، ولكن هناك حالة من حرية الرأي «المقدسة» لديهم في فرنسا لا نظير لمثلها حتى في الغرب، فهي التي تسمح للنساء بالتعري في شاطئ عام، والحق في إنشاء أحزاب دينية «وطنية» حتى ولو كانت فاشية وعنصرية في طبيعتها لأنها تترك الخيار للناخب، وعموما هذا ما اتفق عليه حتى أهم المحللين في الغرب أنها حرية لا تقف أمام أي رادع ثقافي أو اجتماعي أبدا.

مكانة فرنسا رمزية جدا وفي قلب العالم الغربي ولن يجدر أبدا «الدفاع» عن حقوق الغير لديها وعلى أرضها بالعنف والدم والسلاح ولكن بالفكر والكلمة والحجة والقانون، وهذا ما نجح فيه اليهود تماما، فقلبوا وضعهم بالتدريج من جماعة متهمة بأقسى وأسوأ وأشنع العبارات والصفات والتهم إلى الوصول لمرحلة استحداث قانون خاص بهم وهو معاداة السامية عن طريق أبواب القوانين والمحاكم والتشريعات، هم أيضا كانوا في يوم من الأيام يرددون: «إن الغرب متآمر علينا وكل شيء يحاك ضدنا لإهلاكنا».

من المفروض أن تكون هناك دروس وعبر مما حدث في موضوع حادثة فرنسا الإرهابية التي بها ثاني أكبر جالية دينية وهي من المسلمين وأكبر جالية مسلمة في أوروبا، وعليه فإن الحديث مستمر ودون توقف ويبقى السؤال هل سنختار التقوقع أم الاندماج بالدفاع عن حقوقنا المشروعة وعما حصل علينا من اعتداء بالقانون؟