أطروحة التقسيم.. من موران إلى دوفيلبان

TT

ذات مرة تحدث الفيلسوف الألماني الأشهر نيتشه موصفا هوية الفيلسوف، فقال إنه «طبيب الحضارات، بمعني أنه الوحيد القادر على تشخيص أمراض الأمة ووصف العلاج المناسب لها».

أما الكاتب والمثقف العضوي، والمفكر النهضوي، فمن المهام الرئيسية المنوطة به محاولة تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل بين البشر.

فيلسوف ومفكر فرنسيان، تحدثا الأسبوع الماضي بعد ذاك الذي جرى في فرنسا، وعاد بنا من جديد إلى خانة التقسيم المانوي للعالم غداة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2011. من ليس معنا فهو من الإرهاب، ومن لا يقف حاملا شعار «أنا شارلي» حكما فهو عدو فرنسا.

عرف إدغار موران بأنه أحد الفلاسفة وعلماء الاجتماع المعاصرين في فرنسا، ويعتبر من أهم المحللين والمنظرين للفكر المعاصر ولتاريخ الثقافة الأوروبية والعالمية، وقد كان مقاله الأيام القليلة المنصرفة عبر صحيفة «لوموند» الفرنسية، مثيرا للتفكير الخلاق.

يتساءل موران: «هل كان ضروريا إفساح المجال للهجوم على العقائد الإسلامية والمساس بمكانة نبيهم؟ وهل حرية التعبير تتيح ذلك؟ وتحت أي اعتبار؟».

سؤال جوهري تجاوز الفورة العاطفية التي سادت ولا تزال، والتي يسمع من ورائها قرع طبول الحروب، وفي جوابه تشخيص لحالة العالم، أبعد كثيرا من ملامح اللحظة الآنية؛ إذ يرى أن الصعود الآثم لمنظومة العنف والإرهاب حول العالم العربي، والشرق أوسطي تحديدا، ليست سوى محصلة طبيعية لما سماه «التدمير الجاري» و«التدخلات العسكرية»، في العراق وأفغانستان، ما ساهم، في تقديره، في تفكيك الأمم المتعددة الإثنيات والطوائف.

يحدد موران بدقة أكثر السبب المباشر في تلك المأساة التي بلغت حد الملهاة، ويجده واضحا جليا في الولايات المتحدة الأميركية، الساحر المبتدئ، المتحالف مع دول عديدة مجردة من أي قوة حقيقية حاسمة، والمتعالية عن التشاور مع بقية دول العالم.

ما الذي يخيف موران في واقع فرنسا اليوم؟

يخشى في مقدمة كل شيء حالة انتصار يمكن «للفكر الاختزالي» أن يدركها، ليضع اليهود والصليبيين أهدافا للتيارات الإسلاموية العنيفة من جهة، وفي المقابل يختزل كارهي الإسلام العرب في تصوراتهم الوهمية على جماعات العنف المسلح.

هل عدنا إلى «أطروحة التقسيم» من جديد؟ يبقى التعميم هو البيضة التي تولد منها العنصرية.

المفكر الآخر الذي تحدث بعمق ورصانة الأسبوع الماضي وعبر «لوموند» أيضا هو رئيس وزراء فرنسا الأسبق دومينيك دوفيلبان، وبعيدا عن المناصب الحكومية التي شغلها، فالرجل شاعر وكاتب ومفكر، ومن يقرأ مقاله بعمق يكاد يشك في أن ما جرى في فرنسا كان أمرا مدبرا ومرتبا له، لترتيب تبعات واستحقاقات حروب كارثية آتية ولا ريب في هذه المنطقة البائسة من العالم، وعندما يصدر الكلام على لسان دوفيلبان يصعب أن يتهمه نفر من بيننا بأنه مسكون بهاجس الفكر المؤامراتي.

باختصار غير مخل، يؤكد دوفيلبان على أن الفوضى والإرهاب لم يعمّا فرنسا، وإنما الذي خيم عليها هو خوف ممنهج ومنظم.. هل من صانع لهذا الخوف؟

إنه يرى في الأفق ارتسام خط جبهات كابوسي لحرب بين الحضارات والإسلام، وهي حرب على وجه التحديد، مع نسختها الإسلاموية المشوهة والوحشية، وعليه فإنه تلوح بوادر عمليات عسكرية جديدة، لا سيما في شمال أفريقيا، وتحديدا في ليبيا.

ينتقد دوفيلبان نهج التدخل العسكري الغربي في العالم العربي، الذي أنتج، بحسب رأيه، عدوا متطرفا لا يطال، وانهيار دول ومجتمعات مدنية في الشرق الأوسط.. ما العمل إذن؟

القضاء على التطرف والمتطرفين في أفريقيا والشرق الأوسط، وعلى الإرهاب في فرنسا والغرب، غير ممكن ما لم تذلل أزمات العالم الإسلامي، وهي من بنات نزاعات مركبة حدودية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وينزلق المراقبون إلى التبسيط؛ إذ لا يحتسبون غير العرض الإسلاموي من الأزمات.

هل للمرء أن يستنتج خلاصات ما من رؤية موران ودوفيلبان؟

هناك مخاوف حقيقية من أن تكون الأزمة الفرنسية منطلقا جديدا لخطاب التقسيم والإقصاء البوشي القديم، ولاحقا تتحول حالة الترويج لـ«روحية الحرب» إلى حروب حقيقية، تستكمل فيها بقية المخططات، وتنفذ عبرها كافة الاستراتيجيات، التي فشلت عمليات الربيع العربي المغشوش في التوصل إليها، لا سيما بعد ثورة المصريين في 30 يونيو (حزيران) التي أفسدت سيناريوهات أميركية تحديدا.. هل لهذا ذهب البعض إلى التشكيك في أبعاد الحادثة الفرنسية الأخيرة؟

دوفيلبان كان صريحا وواضحا، واعتبر أن قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما لتشكيل تحالف لشن حرب ثالثة سيكون سخيفا وخطيرا. وقد قصد بذلك الدعوة السريعة التي أطلقها الرئيس الأميركي لعقد قمة في واشنطن بتاريخ 18 فبراير (شباط) المقبل، أقرب ما تكون إلى مجلس حرب عالمي جديد.

أبعد من رؤى الفرنسيين، ذهب الروس أيضا، ومنهم المحلل السياسي الشهير أليكس مارتينوف، إلى أن الأميركيين يقفون وراء الأحداث في باريس؛ فالولايات المتحدة تعيث فسادا في أوروبا بهدف تكميم أصوات الحس السليم التي تدعو إلى استعادة التعاون مع روسيا؟

يعن لنا قبل الانصراف التساؤل: «هل نحن على أبواب فصل جديد من التحالفات السرية بين الفاشية الدينية والقوي الإمبريالية الغربية، لتحقيق فكرة القرن الأميركي بامتياز، لا عن طريق الهيمنة والسيطرة على الشرق الأوسط فحسب، بل الاستدارة نحو آسيا، واستخدام هؤلاء مرة أخرى ضد منافسي الغرب التقليديين في روسيا والصين وبقية شرق آسيا؟