الإرهاب والدين والعلمانية: هل نتعظ مما حدث في باريس؟

TT

كشفت فاجعة باريس عمق أزمتنا الإنسانية عبر تأييدنا للقتل وإدانته بالوقت ذاته، وكذلك عن هشاشة فهمنا لما يسمى الإرهاب، وأيضا فهمنا للدين والعلمانية. فعلى المستوى الإنساني لا يوجد على الأرض إنسان ليس لديه مشاعر، والمشاعر لا تتكون بالمطلق بل تؤسسها مفاهيم، وقيم، وتلك المفاهيم والقيم تتنوع وتتضارب بين البشر حسب تجاربهم وتاريخهم. إن تجاهلنا لتلك الحقائق والقفز عليها وإصرار مفكرينا على الخلط بين المفاهيم، وتغليب بعضها على بعض، وإنكار دور المشاعر هو الذي يعمق أزمتنا، ويجرنا كارهين إلى معارك وإراقة دماء لا يريدها الدين ولا العلمانية، وهي التي تدفعنا إلى توصيف الإرهاب توصيفا ذاتيا يتغير لونه حسب المصالح والمواقف الآيديولوجية؛ فمن هو إرهابي لشخص ما قد يكون بطلا لشخص آخر!

لا يمكن فصل ما حدث في باريس عما يحدث في المجال الأوسع من صراع بين المتحمسين دفاعا عن الدين والمتحمسين دفاعا عن العلمانية وبين ما يمكن تسميته صراع الحضارات؛ فالمفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما تراجع عن فكرة انتهاء التاريخ القائمة على سيادة المفهوم الليبرالي الرأسمالي، ولم يتراجع عنها بالممارسة صناع القرار ومعهم عدد كبير من المفكرين في العالم الغربي والعالم العربي والإسلامي؛ فهؤلاء لا يزالون يصرون على أن العلمانية المقرونة بالليبرالية هي الحل الأمثل، وأنها الضمانة الوحيدة لعالم عصري. والعلمانية بجوهرها تتأسس على استبعاد الدين من العملية السياسية لاعتباره عنصرا تفتيتيا للمجتمع، وحصره في الإطار الشخصي (التعبدي) وتنظر إلى الدين، عبر مراجعة تاريخية، بأنه مسبب للحروب والاختلاف. وقد تمكنت العلمانية، ويعترف لها بذلك، من إقامة نظام سياسي مؤسس على نظرية سيادة الشعب، وعلى مبادئ دستورية تفصل بين السلطات، وعلى بناء اقتصاد ضمن للناس حياة كريمة ومرفهة. لكنها بالمقابل وقعت هي الأخرى في فخ التميز والتفرد بعدما رفعت نفسها إلى درجة الدين بمعنى أنها أصبحت المعيار الوحيد لنجاح الإنسانية، وأن من يخالفها معاد ليس لها بل أيضا لحقوق الإنسان، وللقيم، وحتى الحضارة. فكما أن الدين قام على صراع مع منكريه وسالت دماء بسببه، كذلك العلمانية قامت على أنهار من دماء، كما تقول الكاتبة البريطانية المميزة كارين أرمسترونغ في كتابها الأخير «عن الدين وتاريخ العنف». فالعلمانية شأنها شأن كل المفاهيم انتصرت بحد السيف لا بالفكر، وقتل في سبيلها ملايين البشر.

إن العلمانية الأوروبية، كما فعل اليونانيون وبعدهم الرومان وبعدهم المسلمون، تنظر بعقلها الباطني إلى نفسها على أنها محور الحضارة وأن ما حولها برابرة عليهم التمثل بها إن أرادوا التمدن، وأن واجبها إجبارهم إن لم يتمثلوها طواعية. وما علينا إلا تأمل تصريحات الزعماء الغربيين على فاجعة باريس لنرى الفوقية الأخلاقية ظاهرة بادية للعيان؛ فالقادة وصفوا ما حدث بأنه صراع بين الحضارة والبربرية، وذهب بعض مفكريهم أبعد من ذلك فاعتبروا أن المشكلة ليست في المسلمين بل في الإسلام نفسه! المفارقة الكبرى هنا أن العلمانية في مواجهتها المفترضة هذه تدمي نفسها، فتتسرع في إصدار القوانين التي تحرم أهلها من الحريات التي قدموا دماء وتضحيات من أجلها! وقد برزت الفوقية الأخلاقية للعلمانية أكثر بدعوة المسلمين - جميع المسلمين - إلى التبرؤ مما حدث، ومطالبتهم بالمجاهرة، ورفض حيادهم على اعتبار أن المعركة معركتهم وهم لا يد لهم فيها، وما حدث لا يخصهم بل يخص أفرادا في فرنسا لأن الفاعلين هم أبناء فرنسا؛ إنها جدلية بوش تتجدد: إما معنا أو مع الإرهاب؛ وجدلية ابن لادن: فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، وجدلية المسيحية الأولى: مملكة الرب ومملكة الشيطان.

إن العلمانية «الفرنسية» صنفت في نهجها التطبيقي، مدفوعة بمفهوم الإرادة الشعبية لـ(جاك روسو)، الناس بين مؤمنين وكافرين (برابرة وحضاريين) بمعنى أنها رفعت نفسها إلى مصاف الدين: من لم يؤمن بها سيجبره القانون؛ حددت للناس نوع اللباس المقبول ومعه الغرامات، واعتبرت أن الموت في سبيلها شهادة من أجل الوطن، لا بل فرضت على الناس أن يقبلوا بما يجرح أحاسيسهم ومشاعرهم لأن القيم الوحيدة هي قيمها فقط! ولهذا فإنها تعتبر من يخرج عليها، أن العلمانية في الجوهر الحقيقي لا تختلف كثيرا عما تتهم به خصومها وبالتحديد في مجال استباحة الدماء والقتل؛ فتاريخيا أثبتت العلمانية في أوروبا (الثورة الفرنسية) أنها الأكثر دموية، وأنها قضت على خصومها الدينيين بالقتل والسحل لدرجة أن الجنرال تورو الذي أرسله قادة الثورة الفرنسية لضرب الكاثوليك الذين رفضوا إزاحة الدين من حياتهم في منطقة الفانديه في عام 1794 قال في رسالة إلى مسؤوليه: «تنفيذا للأوامر التي أعطيت لي سحقت حوافر خيولي الأطفال وذبح رجالي النساء.. والطرق ملأى بالجثث». وقد ألزم نابليون (رمز فرنسا والثورة العلمانية الفرنسية) في عام 1806 اليهود على تغيير أسمائهم والاستعاضة عنها بأسماء فرنسية وعدم اقتصار زواجهم على اليهوديات.

هذه التجارب التاريخية تتكرر أمامنا، فتفرض فرنسا العلمانية على المسلمات قانونا للباس، ونجد للأسف كثيرا من المفكرين يدافعون عن تلك المفاهيم العلمانية بالقول إن من لم يعجبه عليه العودة إلى وطنه الأصلي، متناسين أنهم أصلاء فقد ولدوا وتربوا في فرنسا! ولا غرابة في ذلك؛ فقبلهم دافع المفكر البريطاني الليبرالي صاحب كتاب «الحرية» الرائع جون ستيوارت مل عن قرار نابليون الظالم بحق اليهود بقوله: «أفضل للبريطاني (المؤيد للملكية) أن يقبل بالمواطنة الفرنسية (العلمانية) بدلا من أن يتقوقع على نفسه، ويدور في فلك تفكيره الضيق، نصف متوحش، ومن دون أي مشاركة أو اهتمام في التيار العالمي». وقبله رأى الفيلسوف الألماني فيخته في بدايات القرن التاسع عشر أن «حب أرض الأجداد هي مظهر من مظاهر القدسية.. وعلى الألمان أن يموتوا من أجل أرض الأجداد التي هي وحدها تعطي الإنسان الديمومة التي يسعى لها لأنها وجدت منذ الأزل وستبقى لما بعد موته». فما الفرق بين الموت من أجل الأرض، وبين الموت من أجل الله؟!

مشكلة العلمانية، ومعها مشكلة القادة والمفكرين، أنها تعتبر نفسها فوق الديانات وتنسى أنها ديانة، وتنسى أيضا أننا كبشر، كما يقول الكاتب الصحافي، كريس هيدجز، نفكر وفق نظام مفاهيمي يصور لنا أن ارتكاب المآسي مشروع لتحقيق مصالح أعلى، فارتكب أتاتورك مجازر الأرمن، وأجبر الناس على التخلي عن الدين لأنه اعتبره «جثة ميتة» وذاك كله في سبيل مصلحة الأمة التركية، وفي عام 1996 وفي برنامج على تلفزيون «سي بي إس» الأميركي سئلت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت: «سمعنا أن نصف مليون طفل مات في العراق بسبب العقوبات أي أكثر ممن مات من أطفال في القنبلة الذرية على هيروشيما فهل ثمة مبرر برأيك لتلك العقوبات»؟ أجابت أولبرايت: «أعتقد أنه خيار صعب أعتقد أنه ثمن مقبول».

ما حدث في باريس، تبعا لهذه الحقائق، كان من المفترض أن يصور على أنه جريمة مثلها مثل باقي الجرائم كتلك التي حدثت في أميركا (أوكلاهوما) وفي أوروبا (النرويج)، حيث قتل فيها شخص عشرات الأشخاص، ووصف الفاعل بأنه مريض نفسيا أو مجنون! كان من المفترض أيضا أن ننظر بعقلانية في خلل التطبيق العلماني واجتراح الحلول؛ فالعلمانية ليست، كما يظن كثيرون، كلها سواء، فهي تتفاضل في تطبيقاتها: فبريطانيا المؤمنة بالتعددية الحضارية، وكذلك أميركا، يتسع صدرهما أكثر من فرنسا للتنوع، ويجد مواطنوهما مجالا أوسع للحوار والتفاعل، وبناء حياة مشتركة يتوافق عليها الجميع. إن غلو العلمانية وغلو الدين وجهان لعملة واحدة، لأن كليهما يتنافسان على السؤدد والسيادة، وكلاهما وفق أطرهما المفاهيمية يضعان معايير الخير والشر، فالعلمانية تدعو إلى خصخصة الدين وحصره على النطاق الشخصي والدين يدعو إلى تأميمه ونشره أقصى ما يمكن، وما نراه في عالمنا من تقاتل في العراق وسوريا وغيرها، ومن أعمال عنف في مدن الغرب، لمثال حق على أزمتنا المعرفية والأخلاقية.

علينا أن نتعظ بالفعل مما وقع في باريس، وأن نتوقف عن تبادل الاتهام والتجريح، وأن نفكر جيدا في طبيعة الدين ولا نقلل من قيمته أو دوره في العالم، وألا نصر على أسطرة (من أسطورة) العنف الديني بمعنى اعتباره «طبيعة حتمية»، كما يقول العلامة الأميركي ويليام كفانو، لأن الإصرار على ذلك لن يكون أبدا في صالحنا، فنحن شئنا أم أبينا نعيش هذا العالم معا، وما نحتاجه بحق هو أن نسعى إلى فهم أدق وأعمق للدين والعلمانية والإرهاب لكي نتمكن بالفعل من فهم الورطة التي نعيشها.