دولة «الحارس الليلي»

TT

سؤال: «ما وظيفة الحكومة؟» لم يشغل أساتذة الفلسفة السياسية العرب.. لأن العرف الحالي يفترض أن الحكومة هي الكل في الكل. أما في أوروبا، فقد كان هذا من الشواغل الأساسية للباحثين في العلوم السياسية، منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم.

بين الحربين العالميتين الأولى والثانية (1918 - 1939) تبنى معظم دول العالم مفهوم «دولة المنفعة العامة»، التي تلزم الحكومة بتوفير مستوى معقول من الخدمات العامة الأساسية للجمهور؛ بدءا من التعليم، إلى الصحة والمواصلات، وصولا إلى السكن وتوفير الوظائف. واعتبر قيام الحكومة بهذه الوظائف إغناء لمبدأ المواطنة. المتوقع طبعا أن يرحب كل الناس بهذا التطور، فكلنا نريد الحصول على تعليم وعلاج مجاني لأطفالنا، وكلنا نريد الحصول على ضمان البطالة حين نفقد أعمالنا.

الفلاسفة والباحثون نظروا للمسألة من زاوية أخرى: كلما توسعت خدمات الحكومة، اتسع بالمقدار نفسه تدخلها في الحياة الشخصية للأفراد. الحكومات الشيوعية هي النموذج المتطرف لهذا المفهوم: تضمن الدولة جميع حاجاتك، لكنك أيضا لا تستطيع حتى التنفس دون موافقتها.

الفيلسوف الأميركي روبرت نوزيك جادل طويلا حول قصر وظائف الحكومة وسلطاتها على ضمان الأمن العام، وقارنها بالحارس الليلي الذي تدور مهمته حول ردع البغاة والمعتدين. في بريطانيا أطلق سياسي محافظ وصف «الدولة المربية = Nanny State» في سياق انتقاده لتوسع الحكومة في القيام بالوظائف التي يفترض أن تترك للمجتمع. طبقا لهذه الرؤية، فإن مجتمعا تقوم حكومته بكل شيء سوف يبقى طفلا خاملا وعاجزا عن إدارة حياته بنفسه.

لعل أقرب النقاشات العربية إلى هذا المعنى هو النقاش حول تخصيص الخدمات العامة وترشيق الحكومة. وأحدثها، ربما، النقاش حول الحكومة الإلكترونية. محور النقاشات العربية هو تحسين كفاءة الخدمة، أما النقاشات الأوروبية، فاهتمت بانعكاس دور الحكومة على الحريات الفردية. ولهذا، فإن مخرجات النقاش العربي تركز على دور القطاع التجاري الخاص، بينما تركز النقاشات الأوروبية على محورية المجتمع المدني كإطار لتطوير الحياة العامة والمشاركة الشعبية في القرار.

حين أتأمل في انتكاسات الربيع العربي، أتساءل: هل كان ضروريا أن تحمل الدولة العربية نفسها كل هذه المسؤوليات؟ ماذا كان سيحصل لو تركت للمجتمع القيام بكل شيء يستطيعه، وقصرت دورها على التخطيط والمتابعة والقيادة؟

في الوقت الحاضر أجد أن غضب الناس من قصور الخدمات العامة يتجه مباشرة للدولة، لأنها ببساطة تملك البلدية والطرق والمستوصف والمدرسة والهاتف والكهرباء و.. إلخ. بعبارة أخرى، فإن أي قصور في أي خدمة سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف شرعية الدولة وإجماع الشعب عليها. ترى ماذا سيحصل لو تولى المجتمع هذه الأمور كلها؟ ماذا سيحصل لو اقتصرت وظيفة الدولة على ضمان أمن البلد وقيادته؟ هل هذا سيوفر محركات جديدة للتقدم أم العكس؟ هل سيصون الشرعية السياسية أم العكس؟