المجتمعات العربية بين الإقبال على الحرية والإعراض عن القانون!

TT

كيف تفهم مجتمعاتنا العربية مسألة الحرية؟ وهل تعي جيدا مقتضيات الحرية وشروطها أم أن الغالب على وعيها التصور المعادل للفوضى؟

نطرح هذه الأسئلة وعيننا على البلدان العربية، التي عاشت ما يسمى «الربيع العربي» وبالأخص المثال التونسي وما تعرفه النخبة السياسية الحاكمة المنتخبة حديثا من وقائع أعادت طرح كيفية فهم قيمة الحرية ونظرة التونسي إلى القانون، ذلك أن الحرية والقانون وجهان لعملة واحدة.

ويبدو لنا أن إعادة طرح هذه المسألة سيزداد في الفترة الأولى، باعتبار أن رئيس الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، الذي فاز أيضا في الانتخابات الرئاسية السيد الباجي قائد السبسي، قد عبر عن عزمه على إعادة الاعتبار إلى هيبة الدولة، بل إنه ضمّن برنامجه الانتخابي هذه المسألة وشدد عليها. وشاءت الصدف أن تبدأ فترة حكم الباجي قائد السبسي بالتحديات الحساسة.

وفي الحقيقة، لا نقصد بتلك التحديات المشار إليها ملف الإرهاب أو البلبلة التي حصلت أثناء الاحتفال بيوم 14 يناير (كانون الثاني)، إذ تظاهر أهالي شهداء الثورة التونسية وجرحاها واحتجوا على مضمون الاحتفالية والأسماء التي تم تكريمها... فتلك «الأحداث» يمكن حشرها في إطار الحرية السياسية غير الناضجة أو اختلافات في وجهات النظر، خصوصا في ما يتصل بالتفاصيل.

فالمقصود إذن هو الإضرابات التي شهدها قطاع النقل في تونس خلال الأسبوع الماضي والتي تسببت في تعطيل مصالح التونسيين وفي توقف امتحانات طلبة الجامعات. وإلى جانب هذه الإضرابات تهاطلت في الأسابيع الأخيرة إعلانات حول إضرابات ستنفذ خلال الشهر الحالي أيضا.

ويتمثل الجدل الحاصل اليوم بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل حول اختلاف تقويم مدى قانونية ممارسة حق الإضراب؛ فبالنسبة إلى الحكومة فإنها تصر على الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل في قطاع النقل، معتمدة في ذلك على قرار المحكمة الإدارية الذي أيد الاقتطاع، باعتبار أن في ذلك احتراما للقانون. وفي المقابل يرفض المضربون مسألة الاقتطاع ويتشبثون بالمطالب التي من أجلها قاموا بالإضراب.

لذلك، فإن إضراب قطاع النقل في تونس يعد مثالا للعلاقة الترابطية والعضوية بين التطلع إلى الحرية والحق فيها واحترام القانون، فالإضراب هو حق لا شك في ذلك، ولكن للإضراب قوانين تحدده تماما كما تضمنه.

ويمكن القول إن الظروف مواتية جدا للنخبة الحاكمة راهنا كي تفرض من جديد مفهوم «هيبة الدولة»، خصوصا أن الإضراب المشار إليه قد لاقى استهجانا شعبيا وتسبب في تعطيل مصالح الآلاف من الشعب التونسي، الذين شعروا بأنهم تمت الإطاحة بمصالحهم من أجل المطالب المادية الشخصية للمضربين.

وبيت القصيد أن مجتمعاتنا تريد الحرية وترنو إليها دون أن تمتلك مفهوما صحيحا وكاملا للحرية، أي أن الحرية في تمثلات المجتمعات العربية أشبه ما تكون بثورة مستمرة، والالتزام والحق فقط في ممارسة الحقوق دون الواجبات. وأغلب الظن أن بعضا مما قيل ويقال ويعتقد صحيح.

ولكن إلى جانب الحق في ممارسة كل الحقوق والحريات الخاصة والعامة، هناك أيضا واجب الالتزام بالقانون، وهو ما لم تهضمه بعد مجتمعاتنا ولم تستطع أن تتبين الترابط بين الحرية والقانون.

وقد يعود تأخر عملية الهضم هذه إلى أن الحرية كانت مفقودة في تاريخ المجتمعات العربية، وكانت القوانين أداة للديكتاتورية والقهر. بمعنى آخر، إن العامل التاريخي يلقي بظلاله على كيفية استحضار الحرية في علاقتها بواجب الامتثال للقوانين المنظمة لحق ممارسة الحرية.

من منطلق هذه المشكلة التاريخية بخصوص كيفية فهم الحرية نسمح لأنفسنا بأن نفترض أن تركيز النخبة الفائزة في الانتخابات التونسية المنعقدة منذ أسابيع قليلة على مسألة إعادة الهيبة إلى الدولة ومؤسساتها لن يكون بالعمل السهل. ومثلما يمكن النجاح وطي ما عرفته سنوات ما بعد الثورة من فوضى، فإنه يمكن أيضا أن تهدد الوجود السياسي للنخبة الحاكمة، فالشارع أصبح قوة مركزية في البلاد ويتعاطى مع الدولة ومؤسساتها من زاوية كونها في خدمته وخدمة مصالحه ومطالبه.

لذلك، فإن إمكانية استخدام الدولة لما يسميه ماكس فيبر العنف المشروع ضد الشارع سيكون مغامرة مفتوحة على العواقب الوخيمة أكثر من التجاوب.

ويبدو لنا أن الإعلام العربي قادر على أداء دور مهم في هذه المسألة من خلال محاولة تدقيق المفاهيم والتصورات، خصوصا أنه قد آن الأوان لوضع مسألة الحرية في إطارها وتفكيك معانيها وشروطها وحدودها، وكيف أن الإقبال على الحرية مشروط بالإقبال على الامتثال للقانون، وذلك من منطلق كون خرق القانون فيه ضرب للمواطنة وللسلطة التشريعية، علاوة على أن الفعل الاجتماعي ساعتها ينقلب إلى فوضى، إذ لا حرية في ظل اختراق القانون، ولا مجتمع تعاقديا دون قوانين تحكمه.

فالمعادلة الصعبة على الجميع اليوم سواء بلدان الثورات (مع اختلافات نسبية وهائلة بينها) أو التي نجحت في الإفلات من عدوى الثورة، إنما تتمثل بالأساس في: كيف تصبح البلدان العربية بلدان الحرية والقانون معا؟