الفلسطينيون ينتظرون المؤازرة والدعم.. وليس التشكيك والاتهامات

TT

البعض وصفها بأنها انتفاضة عفوية، وهناك من فتل شاربيه وهو يتربع في عاصمة عربية بعيدة وادعى مسؤولية اشعال جذوتها وتوجيهها، ثم هناك من شكك وغمز ولمز، لكن يبقى انه غير ممكن اخفاء قرص الشمس المتوهج بغربال، فما جرى في الضفة الغربية وقطاع غزة في الاسبوع الماضي كان مواجهة تصادمية بتوجيه من القيادة الفلسطينية على أرض الوطن الفلسطيني وأول دليل على ذلك قصف المروحيات الاسرائيلية بصواريخ «لاو» مقر الاستخبارات الفلسطينية في رفح، واستخدام الإسرائيليين للدبابات والطائرات ضد المدنيين الفلسطينيين.

لو عدنا الى تلاحق الأحداث لوجدنا أن الحرم القدسي الشريف، الذي يصر الاسرائيليون والاميركيون على اطلاق اسم «جبل الهيكل»!! عليه أصبح وللمرة الأولى، منذ أن بدأت عملية السلام في مدريد، التي انتهت على المسار الفلسطيني الى كامب ديفيد الثانية، نقطة التجاذب الرئيسية بين الفلسطينيين والاسرائيليين. فالفلسطينيون يعتبرون أن هذا هو الخط الأحمر الذي لا يمكن الاقتراب منه وتجاوزه والاسرائيليون يصرون على أنه سيبقى تحت سيادتهم الى الأبد.

وهكذا ورغم الوصفات الاميركية المتلاحقة فقد بقيت المفاوضات بين الطرفين في حالة احتقان شديدة وبقي كل طرف يتحين الفرصة السانحة لإثبات وجهة نظره من خلال اجراء غير عادي في ميدان المواجهة، فاختار الاسرائيليون الزيارة الاستفزازية التي قام بها الى ساحة الحرم القدسي الشريف زعيم حزب «الليكود» اليميني وزير الدفاع السابق ارييل شارون تحت جنح الظلام وبحراسة نحو ألفين من الجنود الاسرائيليين، ورد الفلسطينيون بعنف غير متوقع في اليوم نفسه وفي الأيام اللاحقة فأعلن الاسرائيليون حرباً استخدموا فيها كل الأسلحة، امتدت من الجليل في الشمال حتى رفح في الجنوب.

أراد الاسرائيليون حسم الجدل المحتدم حول المسجد الأقصى بالتأكيد على أن الجيش الاسرائيلي الذي احتل القدس أو «استعادها»، كما يقولون في حرب يونيو (حزيران) عام 1967، وأنه من خلال زيارة شارون الانتخابية التي قام بها تحت جنح الظلام، يحتلها للمرة الثانية، وما على الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم بأجمعه الا الإذعان للأمر الواقع والاستسلام له بدون مناكفة.

وأراد الفلسطينيون أن يثبتوا أنه بإمكان الكف مقاومة المخرز وأنه اذا كان الاسرائيليون قد احتلوا هذا المكان المقدس للمرة الثانية فإن الشعب الفلسطيني يرفض الاذعان الى الأمر الواقع ولديه كل الاستعداد لبذل المزيد من الدم وتقديم المزيد من الضحايا لتحرير المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة.

ليس الأمر مجرد مسرحية ولا هو «سيناريو» تم اعداده سلفا برعاية اميركية ليصبح بالامكان تمرير ما تم الاتفاق عليه «سرا» في كامب ديفيد وبقي سرا بين ياسر عرفات وبيل كلنتون وإيهود باراك وكل ما قيل في هذا الشأن مصدره الذين لا يثقون بأنفسهم والذين لعجزهم لا يجدون وهم ينعمون برغد العيش، هنيئا مريئا، في العواصم العربية البعيدة الا المزيد من كيل الاتهامات للقيادة الفلسطينية التي أثبتت مقدرة يجب الاعتراف بها على المناورة والعمل في الظروف الصعبة.

المتربعون على ريش النعام في العواصم العربية البعيدة الذين اتقنوا لعبة الاختباء وراء الجمل الثورية والشعارات الصاخبة البراقة لم يجدوا ما يسترون به سوءاتهم سوى القول بأن هذه الانتفاضة عفوية وأنه لا علاقة لعرفات والسلطة الوطنية بها وهذا ما كان قاله هؤلاء عندما اندلعت مواجهات «النفق» الشهيرة التي ظهر فيها السلاح الفلسطيني الرسمي في مواجهة السلاح الاسرائيلي فكانت حربا حقيقية سقط فيها الشهداء كما سقط القتلى في صفوف الجيش الاسرائيلي.

والغريب أن هناك ومن العواصم البعيدة ايضا من توعد الاسرائيليين بالويل والثبور وعظائم الأمور ردا على ما جرى وكأن القدس تحتل لأول مرة وكأن الاحتلال هبط بمظلة من السماء في هذا اليوم الذي اقتحم فيه شارون وآلاف الجنود الاسرائيليين الذين يحرسونه ساحة المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة.

إن أهم انجاز لاتفاقيات «أوسلو» التي أشبعت شتما واستنكارا وبُحّتْ حناجر فرسان الجمل الثورية، لكثرة ما هاجموها بالمفردات الجزلة، هو أنها أنهت ثورة المنافي وأعادت الفعل الفلسطيني الى حيث يجب ان يكون بالاساس وألغت صيغة القيادة عن بعد مئات وآلاف الأميال بواسطة «الفاكس» والرسائل الاذاعية المشفرة الوهمية.

يرفض فرسان الجمل الثورية، عن بعد التسليم بأن كل ما جرى منذ مدريد مرورا بأوسلو والى كامب ديفيد الثانية هو استمرار للصراع ولكن بأشكال جديدة وأصروا على أن كل شيء مؤامرة وأنهم هم المنقذون فقط حتى وان كان ليس لديهم أي استعداد للاقتراب من فلسطين مادام ان الاسرائيليين لم يخرجوا منها وذلك حفاظا على «عذريتهم» الثورية وعلى مصالحهم في نعيم الخارج البعيد عن أزيز الرصاص والحواجز والقنابل الدخانية.

إن الأحرى بالذين يتنافخون مرجلة عن بعد أن يعودوا أولا الى وطنهم ساحة الصراع والمواجهة الحقيقية كما عاد قادة الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وقبل ذلك قادة حركة «فتح» وعلى هؤلاء أن يتذكروا أن حزب الله لم يحرر الجنوب اللبناني لا من طهران ولا من دمشق ولا من أية عاصمة عربية بعيدة اخرى، بل من الجنوب اللبناني ومن القرى والمواقع التي كانت تقصف يوميا بآلاف القذائف الاسرائيلية.

ويلفت النظر في هذا المجال أن الذين لم يستيقظوا على احتلال فلسطين الا بعد ربع قرن ولم يقتنعوا بالكفاح المسلح الا للمزايدة على منظمة التحرير الفلسطينية ومصادرة دورها بادروا بمجرد انفجار المواجهات الأخيرة التي راقبوها كغيرهم في الخارج عبر شاشات الفضائيات الى مطالبة ياسر عرفات بالتنحي والى وقف المفاوضات والاستمرار بالانتفاضة حتى تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.

وفي هذا الاطار يمكن ادراج حادثة تصدي نقيب احدى النقابات المهنية الأردنية على جسر الملك حسين على نهر الاردن الفاصل بين الضفة الغربية والضفة الشرقية لكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات واشباعه شتما وسبابا مع ان الأول قادم من عمان، حيث السعادة والهدوء ورغد العيش والثاني قادم من القدس، حيث المواجهات كانت في ذروتها والشهداء والجرحى يسقطون بالعشرات.

إنه منطق غريب عجيب، فاذا فاوض عرفات وتمترس في خندق عدم التفريط بالثوابت الفلسطينية، كما حدث في كامب ديفيد الثانية، يطالبونه بالتنحي واخلاء موقعه لغيره واذا قاتل كما جرى في بيروت في عام 1982 وفي طرابلس في الشمال اللبناني في عام 1983وكما جرى في انتفاضة «النفق» في عام 1996 وفي هذه المواجهات الأخيرة يدعونه الى التنحي وترك موقعه لغيره.

«اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون»، وان الاحرى بهؤلاء أن يوفروا نصائحهم وأن يتخلوا عن اتهاماتهم ويبحثوا عن وسيلة يساندون بها ومن خلالها الشعب الفلسطيني الذي يرابط في ممر «الماراثون» ويدافع عن أرضه بدماء أطفاله وبحبات عيونهم.

لماذا المطالبة بتنحي عرفات في هذا الوقت بالذات بينما المعركة محتدمة وفي ذروتها.. ولماذا الدعوة لوقف المفاوضات...؟

لا معنى لمطالبة عرفات بعد هذه المواجهات، التي كانت حربا حقيقية وفعلية، بالتنحي الا لتبرئة ساحة إيهود باراك وشارون وتحميل الرئيس الفلسطيني وحده المسؤولية. ولا معنى للدعوة الى ايقاف المفاوضات الآن الا اخراج الاسرائيليين من الحرج واظهارهم على أنهم الأحرص على عملية السلام واظهار الفلسطينيين على أنهم عدميون ومتطرفون.

كان الفيتناميون يفاوضون في باريس ويقاتلون على مشارف هانوي، فالمفاوضات كما جرى في كامب ديفيد الثانية وقبل ذلك جزء أساسي من الصراع والشعب الحي المحتلة أرضه هو الذي يقاتل ويفاوض ويتقدم ويتراجع ويناضل في الساحات السياسية الدولية، كما يخوض المواجهات العنيفة فوق تراب وطنه.

ان الحرب امتداد للسياسة ولكن بصيغة اخرى، ولذلك فان أي صدام عسكري لا يقترن بهدف سياسي آني واستراتيجي يصبح انتحاراً عبثياً ومجانياً، ولهذا وعندما انتفض الفلسطينيون ردا على غطرسة شارون والاحتقان الشديد في العملية التفاوضية فإنهم طرقوا الحديد في اللحظة المناسبة وأن الهدف هو تحقيق انجاز مرحلي ملموس يكون خطوة متقدمة على مضمار التطلعات النهائية البعيدة.

والمؤكد ان الفلسطينيين، الذين علمتهم التجارب ان لا يثقوا بنصائح ودعوات الذين يراقبون المشهد عن بعد وأن لا يتوقفوا طويلا عند اتهامات أصحاب الجمل الثورية، سيواصلون خوض الصراع بكل آفاقه من المفاوضات الى المواجهات الى الوجود الفعال على الساحات الدولية الى السعي الدؤوب لتوحيد الموقف العربي.

إن المطلوب الآن ليس التحرير من البحر الى النهر ومثل هذا التحرير لا يكون الا بمعطيات عربية ودولية غير المعطيات الحالية.. والانتفاضة الأخيرة لا يمكن أن تستمر الى الأبد، لكنها ستتجدد في كل مرة يصل الاحتقان فيها ذروته وهذه هي قوانين صراع تاريخي كالصراع على فلسطين. فالمفاوضات مواجهة والمظاهرات مواجهة وبناء الدولة الفلسطينية المنشودة لبنة.. لبنة مواجهة واللجوء الى البنادق والرصاص مواجهة وتوحيد المواقف والصفوف العربية مواجهة وكسب الرأي العام العالمي مواجهة.

لا أسهل من التنظير واستعراض عضلات الألسنة عن بعد، لكن الذين اصابعهم في النار ليسوا كالذين اصابعهم في الماء، والقيادة الفلسطينية، التي ليس هذا هو وقت ابراز اخطائها وسلبياتها، تنتظر من العرب المؤازرة والوقوف الى جانب شعبها والتحرك السريع الفعال على الساحات الدولية وليس كيل الاتهامات والتربيت على أكتاف فرسان الجمل الثورية الذين يتمرجلون عن بعد.