عالمي المزدوج وزيارتي

TT

كانت حياتي العملية دائما هي محاولة لبناء جسور بين عالمي المختلفين: عالم تراثي العربي وعالم جنسيتي وثقافتي الاميركية.

لقد اردت دائما من الاميركيين فهم العرب، واحترام انسانيتهم وحقوقهم. واردت دائما ان يعرف الاميركيون تاريخ العرب، ويحتفون بمساهمتهم العظيمة في الحضارة الانسانية ويتعاطفون مع خسائرهم المأسوية.

وفي الوقت ذاته اردت من العالم العربي ان يفهم الطيبة الاساسية للشعب الاميركي، وان يفهم ان السياسات التي تنبثق من العملية السياسية الاميركية الغامضة لا تعكس قيم وثقافة الناس.

وفي هذه الاطار كافحت لتغيير السياسة الاميركية تجاه العالم العربي وعملت من اجل اعتراف السياسة الاميركية بالاحتياجات الانسانية للشعوب العربية وان تظهر القيم الحقيقية للشعب الاميركي.

ولم يكن ذلك مهمة سهلة دائما، ولا سيما في الاسبوع الماضي.

ففي الوقت الذي انفجرت فيه القدس بعنف رهيب امتد الى باقي الاراضي الفلسطينية واسرائيل ذاتها، كنت في الطائرة متجها الى دمشق في بداية جولة تستغرق اربعة ايام لالقاء سلسلة من المحاضرات في سورية ولبنان تحت رعاية السفارتين الاميركيتين في الدولتين.

وقد ذهبت بناء على دعوة من صديق قديم وهو ريان كروكر السفير الاميركي لدى سورية. فقد طلب هو ومسؤولو الشؤون العامة في كل من سورية ولبنان اذا كان من الممكن ان ازور المنطقة لكي اتحدث مع المسؤولين واجهزة الاعلام والمواطنين العاديين حول الانتخابات الاميركية القادمة، وتأثير السياسات على السياسة الخارجية الاميركية والدور الذي سيلعبه العرب الاميركيون في انتخابات العام الحالي.

وبالرغم من انشغالي بالانتخابات، قبلت الدعوة لعدة اسباب.

فالتغييرات التي جرت في سورية واقتراب تشكيل حكومة جديدة في لبنان تعني ان الوقت مهم للغاية لزيارة الدولتين والتعلم. وفي الوقت ذاته، اعرف ان العديد من الناس في المنطقة يتابعون الانتخابات الاميركية ويشعرون بالقلق من كيفية تأثير نتائجها عليهم. ولذا منحتني الزيارة فرصة للتعلم.

والسبب الاخر الذي دفعني لقبول هذه الرحلة هو صعوبة مقاومة اية فرصة لزيارة لبنان. اني احب هذا البلد. فجدي مدفون هناك، وكبر والدي هناك ولا تزال اسرتي والعديد من الاصدقاء القدامى يعيشون به.

واخيرا يجب القول انه من الصعب علي رفض دعوة السفير كروكر. لقد عرفنا بعضنا البعض وتصادقنا لسنوات طويلة. فقد مر عمله في الحكومة وعملي كمدافع عن حقوق العرب الاميركيين بالعديد من الفترات الصعبة. ولم نكن نتفق دائما ولكنه ابدى اهتماما كبيرا بالشعوب العربية ومعاناتها. وهو صديق احترمه، واعتقد ان زيارتي ستكون مفيدة، وشعرت ان الامر يستحق الدراسة.

وبعد اربعة ايام تملأها المشاعر الفياضة والجهود عدت الى الولايات المتحدة، استرجع أحداث رحلتي، وما عدت اليه وما تركته هنا. وكانت حساباتي صادقة لقد كانت رحلة في غاية الاثارة. فهناك مناخ متغير في سورية. لا يمكن للمرء الا ان يشعر به.. فجمال دمشق المعتق يتعرض لنمو جديد.. ورجال الاعمال الذين التقيت بهم يعدون مبادرات لجذب الاستثمارات، والمثقفين يناقشون افكارا جديدة ورؤى بديلة لمستقبل سورية.

وفي بيروت ايضا توجد مناقشات غنية حول الحكومة الجديدة ومستقبل البلاد. والتقيت بالرئيس والوزراء واعضاء البرلمان، الصغار والكبار، والنواب الجدد الذين انتخب العديد منهم على لائحة رفيق الحريري، يبحثون عن وسائل لاستخدام طاقتهم وموهبتهم لتنشيط الاقتصاد اللبناني. وفي الوقت ذاته تشارك الزعامات التقليدية في حوار لا ينتهي ولكنه منطقي حول الميثاق الوطني والتعريف الضمني.

وتعلمت الكثير من كل تلك اللقاءات، الكثير منها سيفيدني في عملي في واشنطن.

وتركزت اللقاءات على الانتخابات الاميركية، كيف تتشكل السياسة الاميركية ودور العرب الاميركيين في الوقت الراهن. ونقلت الى المستمعين نفس الصورة الواعدة والحقيقية لتقدم العرب الاميركيين التي كثيرا ما اعرضها في مقالاتي. وجوهر رسالتي هو ان السياسة الاميركية، تتشكل في الواقع طبقا لاعتبارات سياسية داخلية، بالاضافة الى المصالح الوطنية والوقائع الاقليمية. ولعدة حقبات كانت القوى الموالية لاسرائيل هي التي تؤثر على السياسة الاميركية، ونتيجة لذلك اصبحت السياسة الاميركية منحرفة وذات توجه واحد. وهي لا تزال مشكلة اساسية ومستوى مزدوجا خطرا في المنطلق الاميركي تجاه الشرق الاوسط، ولكن العرب الاميركيين اصبحوا منظمين، ويلعبون، لاول مرة، دورا في الجهود الرامية لخلق بعض التوازن. وفي كل الحوارات التي اعقبت كلماتي او المناسبات الصحافية تبلورت قضيتان رئيسيتان.

اولا، الاحداث الدموية التي بدأت باستفزاز شارون في القدس. فقد انفجر اليأس والغضب الفلسطيني من حقيقة الاحتلال الاسرائيلي المستمر. وسجلت كاميرات التلفزيون وآلات التصوير استخدام القوات الاسرائيلية للقوة بطريقة مبالغ فيه وغير متماثلة مع ما يحدث، وهو الامر الذي اثار العرب وادى الى انتشار موجة من الغضب ضد اسرائيل والولايات المتحدة.

والقضية الثانية التي لفتت الانتباه هي الانباء الاخيرة المتعلقة بمارتن انديك سفير الولايات المتحدة لدى اسرائيل، الناتجة عن التحقيقات التي اجرتها وزارة الخارجية الاميركية في ادعاءات بأنه انتهك الاجراءات الامنية. وفي الوقت الذي اشارت فيه بعض المنظمات الصهيونية الى معاداة السامية خشي العرب من التجسس. ولدي معلومات تدفعني الى الاعتقاد ان وجهتي النظر غير صحيحة، ولكنها تعكس الهوة العظيمة في الادراك المستمر في تقسيمنا.

وفي نفس الاطار، تساءل الكثير من الحضور عما لا يزال يشار اليه خطأ بطرد ابني جوزيف من وزارة الخارجية في اعقاب احتجاجات من الجماعات اليهودية التي اتهمته بأنه كتب مقالات معادية لاسرائيل.

الحقيقة هي انه في الوقت الذي طالبت فيه هذه الجماعات اليهودية بطرد ابني، فقد ايدته الادارة بل عرضت عليه ترقية. وترك جوزيف وزارة الخارجية بمحض ارادته لانه تقدم بطلب تم قبوله لمنصب يفضله كمحام للحقوق المدنية في وزارة العدل ولانه لم يكن راضيا عن المناخ في وزارة الخارجية الاميركية.

والامر الذي يزعجني بخصوص كل ذلك هو ان ما فعلته الجالية اليهودية في حملتها ضد ابني جوزيف مستمر في العالم العربي. فقد كانت لجهودهم لعزل العربي الاميركي الوحيد من وزارة الخارجية ردود فعل مستمرة واكدت المستوى المزدوج وعدم تناسق القوى التي تسببت فيه.

وكان من اهم المناسبات في رحلتي هي مأدبة الغداء التي اقامها السفير كروكر في مقر اقامته في دمشق على شرفي، ومأدبة العشاء التي اقامها دافيد ساترفيلد السفير الاميركي لدى لبنان على شرفي ايضا في محل اقامته.

وكان كروكر فخورا بأعمال التجديد التي تمت في محل اقامته، وكان المبنى قد تعرض لاضرار عندما هاجمه المتظاهرون، وحاصروا زوجته بالداخل. وخلال الغداء تحدث كروكر عن قلقه العميق لخسائر ارواح الفلسطينيين وعبر عن امله في انهاء العنف.

وكانت مأدبة العشاء في لبنان مناسبة عاطفية للغاية. فخلال وقوفي امام الشخصيات المدعوة بعدما قدمني كل من السفير ومسؤول الشؤون العامة آن اوليري، تأثرت، بعدما استرجعت احداث التاريخ التي اوصلتني الى هذه النقطة. ابن مهاجر لبناني للولايات المتحدة هو الان ضيف شرف في مأدبة عشاء يحضرها الزعماء اللبنانيون. شعرت بالفخر وملأني احساس بتواصل الجسور الممكن.

وكانت هناك مناسبات غير سعيدة ايضا، فخلال استعدادي لمغادرة بيروت علمت ان مقر اقامة السفير كروكر تعرض مرة اخرى لهجوم من المتظاهرين، وبسبب القلق الامني تم اغلاق السفارات الاميركية في المنطقة. وشعرت بحزن عميق لحصار اصدقاء وخمسة من العاملين الهامين، الذين يهتمون بشدة، كما اهتم، بالعلاقات الاميركية ـ العربية، في مثل هذه الفخ من عدم الثقة والغضب. واتعاطف بشدة مع ضحايا العنف الفلسطينيين ولاحباط هؤلاء في العالم العربي الذين شعروا بالغضب الشديد لمشاهد العنف الرهيبة القادمة من الاراضي المحتلة. كما اشعر بالقلق على الاميركيين الذين ادعو لسلامتهم وألا يصبحوا كباش فداء وضحايا لغضب موجه توجيها خاطئا.

والحادثة الثانية التي خيمت بظلالها على رحلتي وقعت خلال الترانزيت. ففي مطار باريس كنت ضحية لملامحي. فعندما نظر مسؤول الامن الى وجهي العربي واكتشف انني كنت في سورية ولبنان اوقفني جانبا وتعرضت لتحقيق وتفتيش مهين.

لقد عدت الى وطني الآن، افكر في الاعمال المتبقية امامنا، التي تبدو، احيانا، انها لا تنتهي. لقد حققنا تقدما، ولكن امامنا الكثير مما يجب ان نفعله، ويجب فعله، لانني كلمتي عربي اميركي هي كلمة واحدة ويجب ان تتوحد عن طريق التفاهم وان لا تتصادم.

*رئيس المعهد العربي الاميركي