الانتفاضة هي الحل

TT

«فلا نامت اعين الجبناء» خالد بن الوليد.

البطش والجبروت اللذان قابل بهما جهاز الامن الاسرائيلي انتفاضة القدس الاخيرة يعودان للشرخ الذي اصاب استراتيجية الامن الاسرائيلية، تلك التي تأسست على ايهام العرب بتفوق الجيش الاسرائيلي وبالاخص ابراز كفاءة القوات الجوية، وعلى استنبات الوهن بين العرب والامعان في الاستفزاز والتعجرف، ولكي تنجح هذه الاستراتيجية حرص العسكريون الاسرائيليون على عدم التورط في اية عمليات عسكرية غير معد لها اعدادا مدروسا، واستطاع الاسرائيليون ان يصنعوا فكرة تفوقهم من عمليات وفر لها كل مقومات النجاح الفني والسياسي، فالنجاح الساحق الذي حققه الاسرائيليون في حرب 67 كان ثمرة تخطيط واعداد عشر سنين، واكبه تجهيز لافضل انواع التكنولوجيا، بالاخص اسلحة حلف الناتو الفرنسية والايطالية، وفي عملية عنتيبي التي خلص فيها الاسرائيليون رهانئهم من الخاطفين، تمرن جنودهم المخصصون لمثل هذه العمليات على سيناريوهات مختلفة من عمليات الخطف، ولم يكن لهذه العملية ان تنجح لولا النفوذ السياسي الذي كفل لهم تسهيلات ودعم من الدول الافريقية، اما ضربتهم المدمرة للمفاعل النووي العراقي عام 81 فلقد وفر لنجاحها حصولهم على طائرات F16 وF15 وتمارين مكثفة عليها.

غير ان التفوق العسكري للجيوش لا يقاس بنجاحها بالقيام في عمليات عسكرية معد لها فحسب، بل بقدرتها كذلك على مواجهة المفاجآت غير المحسوبة وحالات الدفاع والتصرف السليم اذا انفلت زمام المبادرة، والجيش الاسرائيلي في هذا الجانب، اثبتت الحوادث انه لا يظهر اية كفاءة مميزة عن بقية الجيوش الاخرى، اذ راح العشرات من جنودهم قبل سنوات في مناورات بصحراء النقب بسبب سوء تصرف الطاقم الاسرائيلي المشرف على اطلاق الصواريخ، وخلال غزو لبنان عام 82 اشتبكت كتيبتان اسرائيليتان بالخطأ في معركة استمرت لساعات وكلفتهم عشرات الاصابات والاليات، ويعود ذلك لضعف القدرة الاسرائيلية في القتال الليلي، وكشفت التحقيقات مع عدد من قادته الميدانيين بعد حرب 73 عن ضعف بالادارة وسوء التصرف في الايام الثلاثة الاولى التي اعقبت العبور المفاجئ للقوات المصرية، ناهيك عن تصادم الطائرات المروحية التي يروح ضحيتها عشرات من العسكريين الاسرائيليين، ان فكرة تضخيم كفاءة الجيش الاسرائيلي تتمخض من قدرتهم على احاطة عملياتهم بظروف فنية وسياسية يكفل لها النجاح، وفي تأكيد لذلك كشف الفريق الشاذلي في مذكراته عن حرص الاسرائيليين على هيمنة فكرة تفوقهم العسكري عند صانع القرار العربي، ذلك لما لها من مفعول في استنبات الوهن والاستسلام عند العرب في مواجهة كيانهم.

غير ان الشرخ الذي اصاب هذه الاستراتيجية لم يأت الا من اضعف اطراف المواجهة العربية، اذ جاء من الانتفاضة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، فلقد كشف الاحتكاك والمواجهة طويلة المدى عن هشاشة المجتمع الاسرائيلي وتأثره البالغ بالخسائر البشرية، فالحجارة وقنابل المولوتوف والاطارات المحروقة كانت تحيل اطراف المجتمع الاسرائيلي الى مناطق ملتهبة قابلة للعطب، وكان القرع والدق المستمر بالقنابل والقذائف والكمائن التي كانت تنصبها المقاومة اللبنانية كفيلة باحداث التوتر في صفوف المقاتلين الاسرائيليين، لقد كانت المواجهة بين الانتفاضة والمقاومة من جانب واسرائيل من جانب اخر بمثابة لعبة عض الاصابع، الغالب فيها هو القادر على حبس الانفاس وتحمل الالم ومنظر الدم، لذا حاولت اسرائيل اظهار وحشيتها ورعونتها لقمع او صد احد الطرفين لاختصار زمن المواجهة، ولجأت الى كسر العظام واستخدام الرصاص الحي وهدم البيوت والزج بالمعتقلات لقمع الانتفاضة، بينما لجأت لضرب المنشآت المدنية والبنى التحتية والقصف العشوائي لاجبار المقاومة في لبنان على الصراخ، غير انها لم تنجح في كل ذلك، واذا لم تستطع حيال المقاومة اللبنانية سوى الفرار ليلا من الاراضي اللبنانية المحتلة لتنهي بذلك اسطورة التفوق العسكري الاسرائيلي، فانها نجحت بالالتفاف على الانتفاضة الفلسطينية وانهاء لعبة عض الاصابع بدعوة عرفات الى طاولة المفاوضات، وخلال المفاوضات سعت اسرائيل لانعاش استراتيجيتها المشروخة من خلال الامعان في اذلال المفاوض العربي، والتي استسلم لها المفاوض الفلسطيني وتصدى لها المفاوض السوري بكل اباء.

ان عودة الانتفاضة فرصة جديدة للعرب والفلسطينيين لاجبار اسرائيل على الانسحاب من الاراضي المحتلة في 67، هي انتفاضة لا تحتاج لمهارات منظمة التحرير او قياداتها، انها بحاجة لان تترك على سجيتها وان تعبئ بروح الصبر والمثابرة وتحمل الآلام، فالمجتمع الاسرائيلي لن يقوى على العيش في ظل اجواء توتر تحيطه وتغوص في احشائه، لهذا يحاول الاسرائيليون اليوم اعادة الاعتبار لمؤسستهم الامنية والعسكرية، وذلك باظهار اكبر قدر من الوحشية والجبروت في مواجهة الانتفاضة الجديدة، فهم يأملون في انهائها مبكرا قبل ان تستفحل وتصبح حالة يومية.