العولمة أم الغوللة؟

TT

[email protected] اذا كان ثمة علامة فارقة لختام القرن العشرين وافتتاح تاليه، الواحد والعشرين، فهي قطعاً: العولمة.

واذا كان ثمة موضوعة أو أطروحة رائجة رغم غموض خطابها، منهجا ورؤية، فهي: العولمة.

انها واقعة موقع قلب الرحى من حركة التاريخ، لكن ليس واضحاً بعد ما الذي تطحنه وما الذي سينثال من على حوافيها. أهي خير في أصلها أم شر لا بد منه؟

انها واقعة بين الذم والمدح. التبجيل والهجاء. الخوف والرجاء. هي عند الغرب «تغريب العالم» ـ حسب المفكر الفرنسي سيرج لاتوش، هي، في واقع الحال، وليد الحضارة الغربية الحديثة. الوليد الذي غدا هذا العملاق الذي نعيش في كنفه، لنتوسل طرائق عيشه: اقتصادا وسياسة وثقافة. هي، إذن، رأسملة العالم وعولمة الرأسمال. كوننة السوق وثقافته السائلة وتمجيد أربابه وأساطيره: رجال المال وفتيان البورصة الذهبيين وايقونات الاعلان ونجوم السينما والتلفزيون والغناء والرياضة الأشبه بأنصاف الآلهة. مات ماركس عاش هيغل هي (العولمة) بالمعنى التاريخوي: نهاية تاريخ وان يراد ان تكون نهاية التاريخ (بلام التعريف) متبوعة باكتمال الانسان الأخير ـ حسب اطروحة فوكو ياما التي لا تخلو من منطق، لكنه منطق حق القوة. وهي، بالنظر في حركية تاريخ تدافع الأفكار والايديولوجيات، فعل ابدالي نهائي، بمعنى ابدال شبح بشبح: ابدال شبح الشيوعية وفكرتها الفلسفية عن نهاية التاريخ والانسان الأخير ـ انسانها الموصوف عند ماركس بـ «الانسان اللاعب» انسان الخلاص النهائي الخالص من كل اغتراب، سواء مع العالم أو مع نفسه، بشبح النيوليبرالية وانزاله منزلة روح التاريخ وعقل العالم وحال الغاية.

مات ماركس، عاش هيغل وذلك هو الهتاف الفلسفي للعولمة. وبيانها «الثوري» الهائل في انتصار السوبر ماركت على حوانيت الدولة. الديمقراطية الليبرالية على الشمولية الشيوعية. ان العولمة تعني، لجهة أرباب مال وسوق شملها الغنى، تجولاً بلا حدود للاستثمار والاتجار وانتقال الاموال. انها «اصولية السوق» كما سماها جورج سوروس المستثمر العولمي الشهير في بورصة الأوراق المالية والذي جنى المليارات من لعبة روليت «رأسمالية الكازينو». و«أصولية السوق» هنا تفسر عقيدة العولمة وقيمها بحسبانها رسالة «السوق الحر» الخالدة. إن الإعلان هو روح العولمة ورسول سوقها السوبر العابر للثقافات، مخترقاً، بقوته المالية واغراءاته الاستثمارية، الاقتصاديات المحلية (الوطنية) وقوانينها الحمائية. ان العولمة، في أصلها وفصلها، مبنية، في منطق الشمال الغني ـ أهل حلها وعقدها، على انها لغة الكون وخطاب حضارته الواحدة ورؤيته الكسمو اقتصادية القائمة على حرية انتقال العملة والسلعة وتبادلهما، بحيث ان حذاء اديداس الألماني يستثمر تصنيعه في اندونيسيا طلبا لرخصه، فرواجه، كي يمشي به أو يركض ابن آدم عالم ثالثي في ادغال سيراليون ـ على سبيل المثال ـ ان العولمة، في وجهها اليانع ـ المعلن وكذا المستهلك ـ المغوي، ضرب من تبضيع الوجود.

وحتى في يومي عطلة عمل المال (السبت والأحد) يعمل أصحابه على محاسبة أرباحهم وخسائرهم وإعادة ترتيب أوراق مراهناتهم استعدادا لجولة جديدة.. وهكذا.. يتصدر «رأسمالية الكازينو» ـ والوصف لكنز ـ حوالي الف شركة عملاقة تسيطر على 76 في المائة من الانتاج المصنع في العالم.

ان دول العالم الثالث، في عصر العولمة، تحمش في طور تاريخي جديد من التبعية، تلعب فيه دور الزبون المديون. لكن في الوقت نفسه، فإن الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات دخلت في طور اقتصاد سياسي جديد أصبحت تهدد فيه سياسة دولها نفسها. ان تلك الشركات العملاقة التي كانت فخراً وطنياً لبلدانها تتحول اليوم الى أصول متعددة الجنسيات عابرة للقوميات، بل وغدت تملك سياسة خارجية خاصة تفرضها عليها مصالحها النفعية الخاصة سيما عندما ندرك ان الناتج الاجمالي لشركة جنرال موتورز يبلغ 132 بليون دولار، أي ما يعادل الناتج القومي للدنمارك أو الناتج القومي لاندونيسيا التي تضم حوالي 200 مليون نسمة.

وناتج شركة فورد المقدر عام 1998 بمائة بليون دولار يزيد على الناتج القومي لتركيا المديونة. وناتج شركة سوني (34 بليون دولار ـ عام 1997) يزيد على الناتج القومي لمصر.

وهكذا تتقزم دول الجنوب المستهلك في حجم متسول على أرصفة العولمة، ومديون مفلس يكاد يتوسل سيده ـ الشمال، الفاقع الثراء، ويظهر افلاسها وتسولها منعكساً بجلاء في وضع الامم المتحدة وبرامجها الفقيرة الى حد يدفع صاحب مؤسسة اعلامية عملاقة، هو هنا تيد ترنر، الى التبرع بمبلغ بليون دولار من أجل تحسين قدرات مساعداتها الانسانية ـ وذلك موقف نبيل يحسب له.

ان العولمة، في ملامح وجهها الأولية، تشي بوجه شايلوكي (مراب، اناني، مبتز) بمعنى ان ارباب السوق الحرة في الشمال الغني يتوسلون بالعولمة الرأسمالية المتوحشة هبر نصيب السبع من الغنيمة، ثم، بعد الشبع يترك ما تبقى من عظام وبقايا لحم لصيق، للضباع وابناء آوى وبناته. فهل ما يترك من بقايا الغنيمة هي «القيمة المضافة لتكون وجهاً انسانياً للعولمة كما تشرعها قوانين «أصولية السوق» وعلاقتها البضاعية؟. تتساءل نادينا غورديمر الفائزة بجائزة نوبل وممثلة لبرنامج الأمم المتحدة لتؤكد: ان ضرورة العولمة لا يمكن ان تكون الا تساؤلاً عما اذا كانت الفجوة بين البلدان الفقيرة سيتم تقريبها، وما هو الدور الذي يمكن ان تقوم به العولمة في القضاء على الفقر في العالم».