لقاء باريس واستهدافات باراك

TT

اخيرا استقرت الامور بعقد لقاء باريس بعد جهود كبيرة تمت على يد واشنطن. وواضح ان هذا اللقاء كاد ان يسهم بتفكيك الموقف الفلسطيني الذي توحد على الارض شعبياً ورسمياً، وكاد ان يسهم في تهدئة الاجواء الدولية الساخطة على العدوان الدموي الاسرائيلي على شعبنا الاعزل، فضلاً عن تأثيره السلبي في الحالة المعنوية لابناء الشعب المنتفض بالصدور العارية وبالحجارة. اضافة إلى تأثيره في المناخات العربية الشعبية التي تحركت على امتداد البلاد العربية لنصرة شعب فلسطين وانتفاضته الباسلة.

من هنا كانت اهمية الحذر الفلسطيني من هذا اللقاء، والاصرار على تعليق عملية المفاوضات، وربط كل ذلك بوقف الاستيطان بشكل كامل وانسحاب قوات الاحتلال من مداخل المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، اضافة إلى اعادة طرح مسألة توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني من قبل الامم المتحدة كما وقع في كوسوفو، البوسنة وتيمور الشرقية... وتشكيل لجنة تحقيق دولية بالمجازر الاسرائيلية كما وقع مع مجزرة قانا في جنوب لبنان.

وقد اصبح من المعلوم ان الضغوط الامريكية التي بذلت خلال الايام الاخيرة هدفت بالاساس لاجهاض ووأد الانتفاضة المشتعلة، ومنع انتقال واتساع نيرانها، خاصة بعد ان هبت جموع الشعب الفلسطيني في مناطق 1948 للمشاركة بها وتحركت تجمعات اللاجئين في البلاد العربية. كما هدفت لمنع تطور الحالة العربية الرسمية والشعبية، خاصة مع ارتفاع وتيرة الاصوات المنادية بابعاد سفراء وممثلي دولة الاحتلال من البلاد العربية التي تقيم علاقات معها، وسحب السفراء وممثلي مكاتب المصالح العرب من تل ابيب.

وفي اجتماع القيادة الفلسطينية الذي عقد يوم الثلاثاء 10/3 لمناقشة تطورات الاحداث والانتفاضة التي تعم الاراضي الفلسطينية وتفاعلاتها العربية والدولية، ووفق مصادر فلسطينية مشاركة، تم عرض مطول للاحداث واستتباعات الموقف الدولي، موقف فرنسا ودول الاتحاد الاوروبي، الذين قالوا: «لا يمكن مقاومة عاطفة شعب بالمدرعات»، امام باراك، «الذي يصعد من اعتداءاته» «والذي حشد مزيداً من القوات واخذ يستخدم الدبابات والمجنزرات وطائرة الهيليوكبتر في قصف مواقع عسكرية ومدنية». «تصعيد متعمد ومخطط له»،... لذا كان الرأي الغالب بضرورة مقاطعة باراك وعدم اللقاء معه.

ان فكرة عقد لقاء على مستوى سياسي بين عرفات وباراك جاءت في سياق الجهد الامريكي الذي بذل طوال الايام القليلة الماضية، بهدف استيعاب الانتفاضة المشتعلة واحتوائها وتطويق نيرانها المنتشرة على كل ارض فلسطين التاريخية من الناصرة وسخنين وصولاً إلى الاقصى والضفة والقطاع.

وتحت شعارات التهدئة تحدث البعض من القادة الفلسطينيين خلال الايام القليلة الماضية بلغة سياسية على قاعدة: («لِنزن الامور جيداً» و«لندرس سلبيات وايجابيات قبول اللقاء او رفضه»، «وقف شلال الدم»، «لا نبالغ بالحالة الجماهيرية»، «لا نبالغ في المراهنة على قمة عربية»، «على تعاطف دولي»، «لنحسب الامور جيداً ونعمل على وقف شلال الدم»).... الخ من الكلام الهادف في جوهره الى العودة للمفاوضات «العقيمة» الجارية منذ كامب ديفيد، وبالتالي إلى قصور في رؤية كل ما وقع وما حدث من تطور على الارض وما صنعه الشعب بدماء ابنائه.

بالنهاية، لقد نجحت اولبرايت في فرض اللقاء الثلاثي على عرفات، بينما اغلبية القيادة الفلسطينية رأت ضرورة الحذر من اللقاء مع باراك قبل الاستجابة لسحب قوات الاحتلال الاسرائيلي من مواقعها، ومواصلة الضغط في الشارع للحفاظ على زخم الانتفاضة وصولاً لقمة عربية، ولتوسيع نطاق التضامن الدولي مع الانتفاضة وفرض مزيد من العزلة على اسرائيل. ولم تنجح اولبرايت باقناع باراك بابسط الامور والقبول بلجنة تحقيق.

وبالمحصلة المنطقية، فان ضغوط واشنطن ومحاولاتها (التي لم تنجح إلى الان) لوأد الانتفاضة المتجددة كانت اسرع رغم فشلها من صوت عربي رسمي خجول لم يتحشرج فقط، امام نقمة شعبية عربية لن ترحم آجلاً ام عاجلاً.

بينما تلطى باراك بلقاءات باريس على حربه المجنونة التي يشنها بقوة النار والبارود والرصاص على الشعب الفلسطيني الاعزل داخل فلسطين وحشد صباح اليوم التالي المزيد من الدبابات على ابواب ومداخل مدن الضفة وقطاع غزة. وبدلاً من تركيز انظار العالم على ما يجري من مجازر دموية في فلسطين فان هذه الاجتماعات نقلت الصورة فوراً ومعها الرأي العام نحو باريس ولقاءات ما يسمى بالتهدئة.

اخيراً ان مخاطر معزوفة «ان الحل يكمن في العودة إلى طاولة المفاوضات» تطل بنفسها الآن، فالمشكلة تتمثل في المفاوضات ذاتها والصيغة المجحفة التي قامت عليها، فضلاً عن استشراء غول الاستيطان، خاصة في منطقة القدس في ظل هكذا عملية تسوية لا تستقيم مع مرجعية الشرعية الدولية.

بهذا المعنى، ضرورة الربط بين العودة للمفاوضات وبين الوقف الكامل للاستيطان مع توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني وللاراضي المحتلة ووضعها تحت اشراف الامم المتحدة إلى حين الاستقلال الكامل للشعب الفلسطيني اسوة بما جرى في مناطق وبؤر التوتر في العالم وذلك في العقد الاخير. ودعوة مجلس الامن الدولي لارسال لجنة تحقيق دولية بجرائم عدوان الطائرات والدبابات الاسرائيلية على شعبنا الاعزل وفي عمق مناطق السلطة الفلسطينية.

* كاتب فلسطيني ـ دمشق