فرصة مواتية لعقد قمة عربية ناجحة

TT

شيء طيب ان تنعقد القمة العربية في 21 اكتوبر (تشرين الأول)، ورغم ان ذلك موعد يعد متأخرا بصورة نسبية، باعتبار ان الاجتماع يعقد بعد حوالي اربعة اسابيع من تدنيس المسجد الاقصى والانفجار الشعبي الفلسطيني الذي اعقبه، الا انه يظل افضل بكثير من الموعد البائس للقمة الذي اعلن في وقت سابق، والذي رشح له شهر يناير (كانون الثاني) المقبل.

مهم ان تنعقد القمة العربية بعد طول غياب وبعد ان كثرت الاقاويل حول اسباب استبعادها حتى شاع في الاوساط السياسية ان ثمة «فيتو» امريكياً يحول دون اجتماع الرؤساء العرب، وبذلك الانعقاد تستعيد مؤسسة القمة العربية بعض رصيدها الذي تآكل خلال السنوات الاخيرة، وسوف تستعيد القمة صدقيتها اذا اسفر اجتماعها عن موقف يتجاوز التنديد والاستنكار أو التلويح بأمور تمتص غضب الجماهير العربية ونقمتها، وتسعى الى تهدئتها باكثر مما تسعى الى بعث الامل في امكانية التعامل بجدية وحزم مع الاحتلال الاسرائيلي.

ان شئت مزيدا من المصارحة فاني اخشى ما اخشاه ان يتم اجهاض الانتفاضة الراهنة في فلسطين بالمجان، ولا يفكر القادة العرب في استثمار الظرف التاريخي الراهن لصالح الموقف العربي والقضية الفلسطينية، وان ينشغلوا بالتهدئة وتمرير المشهد بأقل قدر ممكن من الخسائر.

اننا الآن بازاء لحظة كاشفة، استبان فيها لكل ذي عينين ان كل ما تم توقيعه من اتفاقات لم تضع اساسا متينا لتعايش الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي في سلام، بل ان العكس هو الذي حدث، حيث ادرك الجميع حجم الظلم والذل والهوان الذي لحق بالشعب الفلسطيني في ظل تلك الاتفاقات، وتحت عنوان «سلام الشجعان» الامر الذي شحن الاعماق الفلسطينية بمشاعر السخط والغضب، بذات القدر فقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك ان اسرائيل تطيل من امد المفاوضات وتضع العراقيل حينا بعد حين، لكي تكسب وقتا تحقق فيه اطماعها التوسعية وتكرس وجودها على الارض. ثبت ايضا ان حكام تل ابيب يتقاسمون الادوار في ما بينهم، لا فرق يذكر في ذلك بين حزب العمل أو الليكود فكلهم مجرمو حرب، وكلهم يؤدون وظائف محددة وادوارا مرسومة.

ثبت كذلك ان اطماع الاسرائيليين ليست مقصورة على ارض فلسطين، ولكنها وصلت الى حرم المسجد الاقصى، حيث اصبح كثيرون يتحدثون الان في صراحة وجرأة غير عادية عن اقامة كنيس يهودي بين المسجد وقبة الصخرة، ثم ثبت ايضا ان كل زعيم اسرائيلي يريد ان يكسب شعبية أو يعزز موقعه في أي تصويت، فان اقرب وسيلة تحقق ذلك الغرض هي الضرب في الفلسطينيين واراقة المزيد من دمائهم.

ما جرى خلال الايام الماضية سلط اضواء قوية على تلك الجوانب، التي اصبحت امورا لا تحتمل أي خلاف، والامر الذي اسقط مختلف الاقنعة التي تسترت بها السياسة الاسرائيلية طيلة السنوات الاخيرة، منذ لاحت في الافق مساعي ومؤشرات «مسيرة السلام».

وازاء انكشاف الوضع على ذلك النحو الذي حرك مساحات في الرقعة العربية لم يسبق ان شهدت غضبا جماهيريا معلنا على الاقل (كما حدث في جامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان)، فان المطلوب من القمة العربية اجراءات لا كلمات وتلويحات، واذا لم يسفر اجتماع الزعماء العرب عن شيء يعبر عن مشاعر الجماهير الغاضبة، فان ذلك لن يصيب الناس بالاحباط فحسب، ولكنه سيؤدي الى اتساع رقعة الغضب، وربما زيادة العنف والثورة في الاراضي المحتلة.

وهو امر مخجل لا ريب ان يتساقط الشهداء والجرحى بالرصاص الاسرائيلي بينما طائرات «العال» الاسرائيلية تهبط وتصعد بأمان في بعض العواصم العربية. وهو مهين ومخجل ايضا ان يتواجد ممثلون لاسرائيل في عدد اكبر من العواصم العربية، يمارسون نشاطهم في هدوء، وكأن شيئا لم يكن في القدس ونابلس ورام الله أو ان يستمر تبادل السياح والسلع والوفود التجارية بين اسرائيل وبين بعض الدول العربية.

انني اذكر هنا بقرار مجلس الجامعة العربية في 1997/3/31 «ايقاف خطوات التطبيع التي جرى اتخاذها مع اسرائيل، وايقاف التعامل معها، بما في ذلك اغلاق المكاتب والبعثات، حتى تنصاع اسرائيل لمرجعية مؤتمر مدريد وتنفيذ الاتفاقيات والتعهدات والالتزامات التي تم التوصل اليها خلال محادثات السلام. وكذلك تعليق المشاركة العربية في المفاوضات متعددة الاطراف، واستمرار التزام المقاطعة من الدرجة الاولى، وتفعيلها ازاء اسرائيل، حتى يتم تحقيق السلام الشامل والعادل».

صحيح انه في اعقاب اعلان ذلك القرار جرى تجميد اجتماعات اللجان متعددة الاطراف، وتجميد بعض مظاهر العلاقات، وقاطعت بعض الدول العربية مؤتمر التعاون الاقتصادي الذي عقد بالدوحة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1997، غير ان هذا الموقف لم يستمر طويلا لان الرياح سرعان ما تغيرت، وعادت ريمة ـ أو حليمة لا فرق ـ الى عادتها القديمة، وانخرط الجميع في المسيرة، وكأن شيئا لم يكن.

هذه الخلفية ـ اضافة الى خلفيات اخرى كثيرة ـ تبعث على التوجس والقلق، وتكاد توحي بأن الارادة العربية اصابها ازاء الشأن الفلسطيني شيء من الفتور، لا يمكن الاطراف العربية من اتخاذ موقف حاسم ازاء التعنت والاستهتار الاسرائيليين.

غير ان الموقف هذه المرة مختلف فالجرائم الاسرائيلية تابعها الجميع حية على شاشات التلفزيون، من ثم فالفضيحة اكبر من ان توارى، واذا قال قائل ان هذه الجرائم ليست جديدة، وان قتل النساء والاطفال والشيوخ ومحاولة اجتثاث الوجود الفلسطيني بكل وسيلة، حدثت منذ الاربعينيات، وان اسلوب القتل والابادة تتبعه اسرائيل منذ اكثر من نصف قرن، فكلامه صحيح تماما، لكن الجديد هذه المرة ان الجرائم اصبحت تسجل وتبث على الهواء، فتعم على الكافة، الامر الذي يجعلها مصدرا لتعبئة واسعة تجاوز بكثير الحدود التي كان متعارفا عليها في السابق.

قد لا نكون بحاجة الى قرارات تكرر ما سبق ان دعت اليه بيانات بمقر الجامعة العربية، وانما بوسعنا ان نقول ان غاية المراد الان ان تلتزم الدول العربية بالقرارات التي سبق ان اصدرها المجلس في عام 97. ولو كان لي رأي لدعوت الى اتخاذ موقف من الولايات المتحدة الامريكية التي ما زالت تبارك كل ما تفعله اسرائيل، وترفض ادانة الطرف المسؤول عن قتل الفلسطينيين.

ولان التطور الاخير مس المسجد الاقصى وانتهك حرمته، فان استبعاد العالم الاسلامي من الدوائر التي تطالب بالتحرك في هذا الظرف، يقلل من الفاعلية المتشددة. لا أعرف كيف تعالج تلك الثغرة، لكني اتمنى ان يكون للعالم الاسلامي حضور في القمة العربية المرتقبة، حتى اذا تم ذلك في حدود رئاسة منظمة المؤتمر وامانتها العامة.

ان ثمة ظرفا مواتيا تماما الان لرأب تصدعات كثيرة اصابت الصف العربي، ولتحقيق اجماع غير مسبوق، ليس بين الحكومات العربية فحسب، وانما ايضا بين الحكومات والشعوب، ذلك ان المشهد الذي نحن بصدده لا يحتمل خلافا، فهل تنجح القمة العربية في توظيف ذلك الاجماع لتحقيق الوفاق العربي واستعادة بنيان النظام العربي المنهار، ولتصحيح الانحرافات والتشوهات التي اصابت القضية الفلسطينية، واهدرت حقوق الشعب الفلسطيني واحدا تلو الآخر، حتى طمع الاسرائيليون في الحرم القدسي ذاته. ذلك هو التحدي الذي نتمنى على القمة العربية ان تنجح في التعامل معه.