لماذا تصر واشنطن على مواجهة مع العرب؟

TT

عاد الجنرال أنطوني زيني الى المنطقة ليجترح المعجزة، ويحاول ايجاد حل للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. واذا نحن تعاملنا مع مهمة زيني من مدخل تفاصيل مهمته، وماذا قال له آرييل شارون، وماذا قال له الرئيس ياسر عرفات، وماذا ينوي هو أن يفعل، نصل فورا الى نقطة اللافهم، وتتحول مهمته الى ما يشبه مهمة الكلمات المتقاطعة. ولذلك... ومن أجل فهم مهمة الجنرال زيني، لا بد من انتزاعها من التفاصيل والعودة بها الى جذرها الأساسي، وهو جذر عنوانه: سياسة الولايات المتحدة تجاه العرب وتجاه القضية الفلسطينية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) عام .2001 وحين نعود بالقضية الى هذا الجذر الأصلي، نكتشف ببساطة أن زيني لم يأت ليحل المشكلة، انما جاء ليفرض الهدوء، وليوقف الانتفاضة الفلسطينية، وليملي ضرورة تصفية المنظمات الفدائية التي تصفها الولايات المتحدة بالارهاب. هكذا ترى الولايات المتحدة (الآن) المشكلة في الشرق الأوسط، ولا تريد أن تراها بغير هذا الشكل. لقد أعلن الرئيس جورج بوش ان العام 2002 هو عام المواجهة مع الارهاب، وهو يرى ان الارهاب منظمات اسلامية تحمل السلاح، وقد ذهب بجيشه الى أفغانستان للقضاء عليها، وهناك منظمات اسلامية فلسطينية تحمل السلاح، ولا وقت لديه ليقف ويسأل ان كانت تختلف عن القاعدة وطالبان أم لا؟ لا وقت لديه ليقف ويسأل هل هي منظمات ارهابية أم هي منظمات تعمل لتحرير بلدها من جيش محتل؟ فهذه أسئلة زائدة عن الحاجة، وقد تربك الحملة الاعلامية الرامية الى اقناع الأميركي وشحنه، فهو لن يستطيع أن يفهم كيف تكون حكومته (ضد) منظمات اسلامية و(مع) منظمات اسلامية، ولذلك لا بد من ضرب الجميع لكي يستقيم العمل الاعلامي الداخلي. ومن أجل تسوية المفاهيم كما تسوى الأرض للبناء فوقها، جرت تسوية النظرة للارهاب، فهو واحد في كل مكان، وهو واحد مهما كان الهدف ومهما كانت الغاية، وهو واحد مهما كان الدافع، وهو واحد بشكل خاص اذا كان لا يتلاءم مع سياسة الولايات المتحدة أو يشذ عن تفاصيلها. وقد قدم عبد الاله الخطيب وزير خارجية الأردن، وصفا دقيقا لعملية تسوية المفاهيم كما تسوى الأرض للبناء، حين قال في لقاء مع جمعية الوعاظ والأئمة التابعين لوزارة الأوقاف (3 ـ 1 ـ 2002): كنا في الماضي نتفهم حركات التحرر في العالم، ولكن هناك معارضة واسعة اليوم لبعض نشاطاتها مهما كانت الدوافع، فالرأي العام العالمي لا يقبل اعتداء على المدنيين أو تعريضهم للخطر بدافع التحرر. وقال: ان حق الشعب الفلسطيني في رفض الاحتلال أمر مقّر، ولكنه نبه الى ضرورة مراعاة معايير الرأي العالمي في الوقت نفسه. ومن أبرز عمليات تسوية المفاهيم كما تسوى الأرض أنه حين ظهر بأدلة أميركية، أن ناشري جراثيم الجمرة الخبيثة داخل الولايات المتحدة الأميركية، يمكن أن يكونوا أشخاصا (أو شخصا) أميركيين، جرى الصمت حول هذه المسألة الخطيرة، واختفى الحديث عنها تقريبا في أجهزة الاعلام. لماذا؟ لأن الوقت غير مناسب أبدا للحديث عن خطر ارهابي أميركي داخلي، في وقت تحتاج فيه الادارة الأميركية الى تركيز التعبئة على العدو الخارجي. وفي سياق هذا النهج الأميركي السياسي والاعلامي، يأتي الجنرال زيني للعمل في المنطقة، ويستقبله الجنرال شارون بطريقة مهينة، ويطلق في وجهه الشروط قبل أن تحط طائرته على الأرض، ويتصرف معه وكأنه ضابط صغير يعمل تحت امرته وليس ضابطا كبيرا يعمل في امرة الادارة الأميركية. وما كان لشارون أن يتجرأ ويفعل ذلك مع مبعوث أميركي لولا أنه يعرف الأمر السري الرئاسي الأميركي، يعرفه قبل أن يطلع عليه زيني، فقد سمعه شخصيا من الرئيس الأميركي، سمعه وشوشة بالأذن قبل أن تتحول الوشوشة الى قمع وقتل واحتلال وحصار حتى للرئيس عرفات في مكتبه، والى حد منعه من الذهاب الى الصلاة في بيت لحم في ذكرى ميلاد السيد المسيح. ويمكن أن نقول هنا ونكرر القول دون مغالاة، ان السماح الأميركي لشارون بممارسة هذا الضغط الهائل على الفلسطينيين لا يستهدف تطويعهم فقط، انما يستهدف أيضا تطويع المنطقة العربية، والضغط على الفلسطينيين بواسطة شارون وحكومته وجيشه هو رسالة موجهة الى العرب ليتعظوا وليفهموا رسالة الضغط غير المباشرة، قبل أن تصل اليهم رسالة الضغط المباشرة، وهي رسالة تشمل الآن ثلاث ساحات أساسية هي لبنان وسوريا والعراق. لبنان: يحظى بالنصيب الأكبر من الضغط بالرغم من أنه غير مدرج في القائمة الأميركية عن الدول الداعمة للارهاب. وهو يتعرض لضغط ذكي لبق، ثم يتم التلويح له بنوع آخر من الضغط القاسي والفج. الضغط الذكي مارسته بريطانيا حين حصرت ما هو مطلوب من لبنان بوقف جزء واحد من نشاطات «حزب الله» هو نشاطه العسكري، وجرى تقديم هذا الطلب وكأن هناك حزبين يطلق عليهما اسم «حزب الله»، حزب خير يستطيع أن يبقى، وحزب شرير لا بد أن يزول، ان تتولى الدولة اللبنانية تجريده من السلاح. أما الضغط القاسي والفج الذي يتم التلويح به ضد لبنان فهو يشمل مسائل عدة اضافة الى حزب الله، يشمل فتح ملف «عماد مغنية» الذي يصفونه بأنه رجل العمليات (الارهابية) في الحزب منذ عام 1983، أي حين لم يكن حزب الله موجودا بعد. ومغنية الذي يتم الصاقه جزافا بحزب الله متهم بأنه المسؤول عن تفجير السفارة الأميركية في بيروت عام 1983، مع أن الكل يعرف، وفي المقدمة منهم المخابرات المركزية الأميركية (CIA) أن عملية تفجير السفارة الأميركية في بيروت هي عملية نظمتها المخابرات السوفياتية في حينه (KJB). والذي نبه الى دور المخابرات السوفياتية في العملية هو المخابرات الأميركية نفسها وليس أحد غيرها، ذلك أن النسف لم يكن يستهدف السفارة بالذات، انما كان يستهدف اجتماعا لمسؤولي المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط، وأدركت «CIA» فورا أنه لا يمكن لأحد أن يعرف نبأ هذا الاجتماع وموعده ومكانه سوى جهاز مماثل لها هو الجهاز السوفياتي. ولكن من الممكن الآن تجاهل كل هذه الوقائع، وطرح موضوع مغنية على أنه موضوع يخص لبنان ويخص «حزب الله». كذلك يمكن استخراج ملف مغنية وربطه بمن تشاء، بسوريا اذا لزم الأمر والقول أنه زارها، وبايران استدعت الضرورة والقول انه أقام بها، وبابن لادن اذا كان لا بد من تهمة جاهزة لا ترد والقول انه التقى به أثناء اقامته في السودان. ومن بين ركام هذه التفاصيل يكون الهدف الثابت هو الضغط على لبنان. سوريا: لا توجد علاقة ملتبسة بين الولايات المتحدة ودولة أخرى، مثلما هي العلاقة بينها وبين سوريا. لقد كانت دائما علاقة اضطرارية، علاقة ضرورية تفتقد الى الود. انها دولة تتصدر القائمة الأميركية عن الدول الداعمة للارهاب، ولكنها في الوقت نفسه الدولة التي تسعى الولايات المتحدة الى كسب ودها حين تكون في صدد رسم سياسات استراتيجية في الشرق الأوسط، مثل بناء الحلف ضد العراق عام 1990، أو عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، أو بناء الحلف ضد الارهاب في أفغانستان عام .2001 وقد كان من شأن هذه العلاقة الملتبسة أن الرئيس جورج بوش اتبع نصائح مستشاريه، وأدخل تعديلا على الخطاب الذي ألقاه في الأمم المتحدة بعد أحداث 11 ـ 9 الدامية. لقد كان الخطاب الأصلي ينص على «اعتبار كل دولة تقدم الرعاية للارهاب هي دولة ارهابية» يجب أن تحارب، وهذا نص يشمل سوريا، ولذلك جرى تعديل الفقرة بحيث اصبحت كما يلي «كل دولة (تواصل) تقديم الرعاية للارهاب هي دولة ارهابية». ودبلوماسيا يعتبر هذا التعديل «مهلة» لسوريا، والا فان الضغط بعد ذلك سيبدأ ضدها. والضغط الأميركي على سوريا ثلاثي الأطراف، فهناك ضغط مباشر عليها بواسطة قضايا تخصها وحدها، وهناك ضغط ثان بسبب القضايا التي تخص لبنان (حزب الله)، وضغط ثالث بسبب القضايا التي تخص فلسطين (تواجد المكاتب الاعلامية لعدد من الفصائل الفدائية في دمشق)، وتتصرف الولايات المتحدة على أنها تراقب ما يجري، لتقرر بعد ذلك خطوة الضغط التي ستقوم بها ضد سوريا. ويقول الدبلوماسيون ان سوريا لن تكون هدفا لحرب عسكرية أميركية، ولكنها قد تكون هدفا لاستفزازات اسرائيلية، أو هدفا لحرب اقتصادية. وبما أن سوريا لا تحصل على مساعدات أميركية، وتتركز علاقاتها الاقتصادية الخارجية مع دول أوروبا، فان الولايات المتحدة ستحاول دفع الدول الغربية المعنية (فرنسا ـ ألمانيا ـ ايطاليا) الى الضغط على سوريا، وهو أمر يتناقض مع مصالح هذه الدول، الا اذا لاحظنا أن هذه الدول لا ترغب في فك تحالفها الراهن مع الولايات المتحدة، وهي اذا قاومت طلبات أميركا فانها تقاومها الى حين. وتبلغ ديون سوريا الخارجية حوالي 19 مليار دولار، 12 مليار دولار منها لروسيا منذ أيام الاتحاد السوفياتي، والباقي لدول أوروبا. أما فاتورة سداد أعباء الديون السورية فهي في حدود 800 مليون دولار سنويا. العراق: يواجه العراق حربا عسكرية أميركية تتجدد وتتواصل منذ عشر سنوات، ويواجه أيضا حربا اقتصادية متصلة، وهو معرض الآن لحرب عسكرية أميركية جديدة لا تحظى بموافقة أي طرف عربي. لقد حاولت الولايات المتحدة أن تربط بين العراق وأفغانستان باية طريقة ممكنة، ولكنها لم تتمكن من ذلك. اخترعت نظرية اجتماع بين دبلوماسي عراقي ومحمد عطا (منفذ الهجوم الأول في نيويورك)، ثم أعلنت بنفسها ان الاجتماع تم مع شخص آخر يحمل الاسم نفسه. وحاولت أن تربط بين العراق وجراثيم الجمرة الخبيثة، واخترعت عملاء يتحدثون عن أمكنة لصنع هذا الجرثوم في العراق، ثم أعلنت بنفسها ان مصدر الجمرة الخبيثة أميركي داخلي. وحين لم تتمكن من تبرير تهديد العراق عسكريا بسبب موضوع الارهاب، لجأت الى حجج القوة الأعظم القادرة على فرض القرار مهما كان نوعه، قالت: ان الحرب في العراق ستكون بسبب رفضه لعودة المفتشين الى بغداد. مجلة «نيوزويك» الأميركية كتبت «ان قيادة الأركان تحت ضغط شديد لانتاج خطة شاملة للتخلص من النظام العراقي». كما أن ضرب العراق سيكون موضوعا للبحث في اللقاء الذي سيتم بعد أسبوع بين الرئيس بوش والرئيس التركي بولند أجاويد، حيث تعارض تركيا ضرب العراق خوفا من نشوء دولة كردية على حدودها وربما داخل أراضيها. ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن الملك عبد الله ملك الأردن قوله انه أبلغ بغداد ثلاثة أمور: ان أحداث 11 ـ 9 غيرت العالم، وانه يتوجب على العراق العودة الى حوار مع الأمم المتحدة اذا أراد تجنب المواجهات العسكرية، وان أمام العراق ستة أشهر للسماح لمفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة بالعودة. ماذا نستخلص من هذا كله؟

نستخلص أمرا واحدا، هو وجود سياسة ضغط أميركية شاملة على العرب، تبدأ بفلسطين، ولا تنتهي في لبنان وسوريا والعراق، لأن تداعياتها تجاه السعودية ودول الخليج، وتداعياتها تجاه مصر ودول عربية أخرى تطل برأسها كل يوم، في شكل ضغوط سياسية سرية أحيانا، وفي شكل حملات اعلامية علنية أحيانا أخرى، وليست مهمة الجنرال زيني سوى العنوان لحملة الضغط هذه، فاذا استجاب العرب يتم لجم شارون، واذا جادلوا أو اشترطوا أو رفضوا، فان هراوة شارون يمكن أن تتسع. وربما لهذا تواجه القمة العربية المنتظرة في بيروت صعوبات في عقدها، وربما لهذا يجب أن تنعقد القمة. وربما لهذا أيضا كان خطاب الأمير عبد الله غير الاعتيادي في قمة دول مجلس التعاون الأخير، وهو خطاب له ما بعده.