خيار عربي صعب في ظرف دولي خطير

TT

ايهما افدح واكثر مدعاة للأسى وللقلق: ان يؤجل عقد القمة العربية في بيروت، في مارس المقبل نظرا لصعوبة اتفاق الانظمة والحكومات العربية على جدول اعمال او على موقف موحد؟ ام ان تنعقد ولا يصدر عنها قرار او موقف من القرارات او المواقف التي تنتظرها الشعوب العربية من حكامها؟

تلك هي المسألة، كما يقول شكسبير، وكل القراءات والتعليقات والتخمينات الاخرى، فتفاصيل، وهي هامة بلا ريب لكن مجرد تفاصيل ثانوية، لا سيما تلك التي تطرح او تثار على مستوى السياسة الداخلية اللبنانية، وتدخل في تأويلها او في البحث عن اسبابها الحقيقية، توازنات الحكم في لبنان، وخلافات الحاكمين او اعتبارات حزبية طائفية.

ربما منذ ان انشئت جامعة الدول العربية، التي تشكل الاطار المؤسسي القومي لعقد مؤتمرات القمة، لا سيما بعد ان اصبحت دورية، لم تكن الظروف الدقيقة والخطرة، بل المأساوية التي تمر بها الامة العربية، في مثل ما هي عليه اليوم، سواء بالنسبة لما يحدث في فلسطين او بالنسبة للحرب العالمية التي تشنها الولايات المتحدة الاميركية على الارهاب، وهي حرب تدخل اكثر من دولة عربية واسلامية فيها، اما كحليف للولايات المتحدة في مقاومة الارهاب او كدولة «مشجعة للارهاب او آوية للارهابيين»، على حد تعبير واشنطن.

المرة الاولى التي عقدت فيها القمة العربية في لبنان كانت في عام 1956، اثر العدوان الثلاثي (الاسرائيلي ـ البريطاني ـ الفرنسي) على مصر. يومذاك كان عدد الدول العربية لا يتجاوز السبع، ولم تكن الولايات المتحدة تلعب الدور الكبير بل الاول الذي تلعبه اليوم في الشرق الاوسط والعالم، ولم تكن اسرائيل تملك ما تملكه اليوم من تفوق عسكري، ولم يكن هناك احتلال اسرائيلي للضفة ولاراض عربية اخرى، ولا مقاومة فلسطينية وعربية واسلامية، ولا تيارات وحركات دينية متطرفة تخوض معركة ضد اسرائيل ومعارك ضد معظم الانظمة العربية، وفي حرب مفتوحة ضد الولايات المتحدة والغرب. وبالرغم من ان الامة العربية، حكومات وشعوبا، كانت ثائرة على العدوان الثلاثي ومجمعة على المطالبة بالتصدي للعدوان ومعاقبة المعتدين، فإن القمة التي عقدت في بيروت لم تتوصل الى اجماع بالنسبة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا، وكانت اولى نتائج هذه القمة استقالة الحكومة اللبنانية، يومذاك، وحدوث الصدع او الشرخ الاول في اناء الوفاق الوطني بين اللبنانيين، الذي راح يتسع ويمتد، محدثا «ثورة 1958» ومؤديا بعد دخول مياه النزاعات العربية ـ العربية من خلاله مع السموم الاسرائيلية الى حرب 1975.

بطبيعة الحال ليس لبنان، ولا الدول العربية، اليوم، في الاوضاع او الظروف الموضوعية التي كانت سائدة في الخمسينات من القرن العشرين ولكن ثمة واقعا وحقيقة يقضيان الاعتراف بأن الخلافات بين الدول العربية (التي ارتفع عددها الى ما فوق العشرين دولة) ما زالت قائمة، بل تزايدت وتعمقت، لا سيما بعد حرب الخليج، وان الاسباب التي حالت دون انعقاد القمة العربية، منذ ذلك التاريخ، لم تذلل كلها، وان الاستراتيجية العربية الواحدة التي كان من الممكن وضعها والاتفاق على تنفيذها كما حصل في القمة الاولى عام 1964، بات من الصعب جدا تصورها او وضعها، في الظروف الراهنة، فكيف بتنفيذها.

غير ان هناك رغم كل هذه الصعوبات والعقبات حقائق ساطعة لا يمكن اخفاؤها عن الاعين ولا تجاهلها، من قبل الانظمة والحكومات العربية، واهمها اثنتان، الاولى وهي ان السكوت العربي عما يحدث في فلسطين اصبح من الامور التي تأباها كل نفس عربية، والثانية هي انه لا بد ولا مناص من ان تفعل الدول العربية والاسلامية «شيئا ما» ان تتحرك، ان تقدم على خطوة او خطوتين، لاخراج المأساة الفلسطينية من السجن الذي وضعها شارون داخله، ولقد كان كلام ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز امام قمة الدول الخليجية عن التغيير المطلوب في النفوس والعقول العربية، وعن محاسبة الذات العربية لنفسها، وعن ضرورة مواجهة الامة العربية لمسؤوليتها التاريخية وتنفيذ معاهدة الدفاع المشترك وتحقيق الوحدة الاقتصادية وتوحيد كلمة دولها، ناقوس خطر قويا يطلقه الامير عبد الله وتعبيرا صادقا عن مشاعر الانسان العربي وامانيه، وما يؤمل اليوم ونحن على شهرين من موعد انعقاد القمة العربية في بيروت هو ان يترجم خطاب ولي العهد السعودي الى مواقف وقرارات ايجابية تتخذها هذه القمة.

الا ان المعجزات في السياسة نادرة، واذا كان في غير مصلحة الامة والشعوب العربية تأجيل انعقاد القمة بسبب صعوبة الاتفاق على جدول الاعمال والقرارات والاستراتيجية، فإن انعقادها يبقى افضل حتى لو لم يتمكن القادة من الاتفاق الا على نقطة او نقطتين من جدول المواقف والخطوات الطويل الذي تطالب الشعوب العربية بتنفيذها. ان النقاط «الدقيقة» او الصعبة هي التي تتعلق بوقف العنف بالنسبة للنضال الفلسطيني، اي الانتفاضة والمقاومة المشروعتين في نظر العرب وغير العرب ايضا و«الارهاب» او «العمليات الارهابية» كما تسميها اسرائيل بصوت عال، وواشنطن همسا، اي قطع الدول العربية المتصالحة مع اسرائيل لعلاقاتها بها او تجميدها، كما تطالب بعض الدول العربية، اي العودة الى تشديد المقاطعة العربية الاقتصادية لاسرائيل اي تقديم مساعدات مالية وغير مالية للشعب الفلسطيني لدعم صموده.

ان المشكلة الحقيقية التي عانتها الدول العربية منذ نشوء جامعة الدول العربية واعتماد عقد مؤتمرات القمة ما زالت هي هي، فالحكومات العربية لا تستطيع تجاهل مشاعر او مطالب او اماني شعوبها، ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع ـ وقد علمتها التجارب العديدة التي انتهت بكارثة او نكسة او هزيمة الكثير ـ ان تندفع وراء الاماني والمطالب التي لا تتوفر لديها القدرة او الطاقة على النجاح في تحقيقها او تلك التي لا تتوفر الظروف الدولية الملائمة لها.

لسوء الحظ ليس امام القمة العربية طريق مختصر او قصير او ناجع لتلبية ما تطالب الشعوب به، او ما من شأنه وقف شارون عن مجونه وجنونه، او اقناع الدول الكبرى بإرغام اسرائيل على القبول بشروط السلام العادل القائم على مبادئ مدريد او قرارات الامم المتحدة والطريق الذي اشار اليه ولي العهد السعودي في حديثه الاخير وهو الطريق الصحيح والدواء الناجع انما هو طريق طويل وشاق ومليء بالتضحيات وقائم على العمل الصامت البناء والتخطيط والاستراتيجية الطويلة المدى، لكن رحلة الالف ميل انما تبدأ بخطوة حتى لو كانت صغيرة.

ومهما كانت الخطوات الممكنة التي تستطيع القمة العربية القيام بها، صغيرة او متواضعة، فان انعقاد القمة واتخاذ هذه الخطوات يبقى افضل ألف مرة من تأجيلها او عدم انعقادها، ثم ان الواقع المأساوي العربي، لم يعد يتحمل المناورات والتكتيكات، لا سيما تلك التي غايتها الحقيقية سياسية داخلية او ظرفية.