خطوط التصدع في خارطة العلاقات الدولية المتجولة

TT

أطلق المفكر الفرنسي المعروف جاك اتالي على المناخ الاستراتيجي الجديد الذي تلا الحرب الباردة عبارة «جيبولوتيكا الخطر»، مبينا ان الوضع الدولي الراهن، بدلا من أن تكون سمته السلم والأمن، تضاعفت فيه بؤر التوتر، وتسارعت وتيرة العنف والصراعات المتعددة.

ومن بين المخاطر التي تتعين الاشارة اليها، تلك المتعلقة بالتقنيات (وخصوصا الجانب العسكري والبيولوجي منها)، وبالاستهلاك وبشبكات الاتصال المعلوماتية، والشبكات المالية، فضلا عن المخاطر المنجرة عن ندرة بعض المواد الأولية الحيوية وعلى رأسها المياه.

ان هذه المخاطر هي التي تفسر مرور العالم بعد نهاية الحرب الباردة الى اشكال غير مسبوقة من المواجهات، يدعوها البعض «الصراعات اللامتوازنة» ويطلق عليها البعض الآخر «حروب العصر الوسيط الجديد»، وتتباين النماذج التحليلية في ضبطها ووصفها، بقدر ما تتأرجح الدراسات الاستراتيجية في صيغ التعامل الفعال معها. ولا شك في ان احداث 11 ايلول (سبتمبر) قد فرضت على العقل الاستراتيجي الغربي بلورة اتجاهات نظرية واجرائية بديلة من البراديغمات المألوفة الشائعة لاستكناه هذا الزلزال الهائل الذي يندرج ـ في ما وراء الصدمة الواسعة التي خلفها في مختلف انحاء المعمورة ـ في ديناميكية الخطر التي تلت حقبة الصراع القطبي السابق.

وكان العديد من الاطروحات (الأمريكية على الأخص) قد ذهب الى امكانية تحقيق (او فرض) السلام الشامل في الخارطة الدولية، من خلال عدة آليات ووسائل، من ابرزها:

ـ نشر قيم الديمقراطية وحقوق الانسان والتسامح التي مكنت في الفضاء الغربي من حل المعضلة السياسية والأمنية في المجتمعات المتعددة التركيبة العرقية والقومية.

ـ ربط اقتصاديات بلدان الجنوب المنكوب بمركز الاقتصاد العالمي في الولايات المتحدة واوروبا الغربية من خلال الاصلاحات الاقتصادية والمالية التي تطبقها الصناديق الدولية في هذه البلدان، مما من شأنه القضاء على الجذور المجتمعية للنزاعات والصراعات الأهلية.

ـ تفعيل دور الهيئة الأممية في احتواء المنازعات الاقليمية والدولية، بعدما انتفت عوائق فاعليتها (الصراع بين المعسكرين الأمريكي والسوفياتي).

ـ اضطلاع الولايات المتحدة بصفتها القوة الدولية العظمى الوحيدة بمسؤولية حفظ السلام والأمن في العالم، من خلال التدخل المباشر، او عبر الهياكل الاقليمية والدولية التي تتحكم فيها مثل الحلف الأطلسي ومنظمة التجارة الدولية.

ولقد راودت الادارات الأمريكية المتعاقبة في تعاملها مع الصراعات العديدة التي عرفها العالم بين اتجاهات ثلاثة هي: التدخل تحت المظلة الأممية (في الحرب الصومالية والبوسنية) والتدخل تحت مظلة هياكلها الاستراتيجية (مثل الضربات الاطلسية في كوسوفو) والتدخل المباشر في حالة تهديد واضح لمصالحها الحيوية او استهداف معلن لها (الضربات الموجهة لمصنع الشفاء في السودان والحرب الأخيرة ضد حركة طالبان)..

بيد ان العقل الاستراتيجي الأمريكي بدا عاجزا بوضوح عن ادراك المتغيرات الهائلة التي عرفها الوضع الدولي بعد الحرب الباردة، وظل متمسكا بمفاهيم الحرب الباردة، كما تدل على ذلك خطط وزارة الدفاع الأمريكية التي واصلت نهج الحرب الباليستية والفضائية التي اعتمدتها خلال مواجهتها مع الاتحاد السوفياتي.

ولذا فان اعتداءات 11 ايلول شكلت صدمة غير متوقعة لصانعي القرار، على الرغم من ان الكثير من التقارير والدراسات التي أعدتها الاجهزة العسكرية والأمنية الأمريكية حذرت بوضوح من مخاطر العنف المنجر عن حركات الارهاب.

وقد حملت الاحداث الأخيرة الادارة الأمريكية على ادراك بعض جوانب هذه المتغيرات، ومن ثم كان حديث الرئيس بوش عن طبيعة الحرب الجديدة المختلفة من حيث الجوهر والآليات عن المواجهات السابقة، وان كانت ردود الفعل الأمريكية الأولى على اعتداءات 11 ايلول كشفت عن هنات خطيرة في ضبط حجم التحولات الاستراتيجية الدولية (وعلى الخصوص هاجس الصراع الثقافي مع الشبح الاسلامي).

وكما بين العديد من الباحثين في الشأن الاستراتيجي، وعلى رأسهم المفكر الفرنسي فيليب دلماس الذي كتب قبل خمس سنوات كتابا هاما بعنوان «المستقبل الجميل للحرب» فان الصراعات الجديدة تتميز بالسمة الحركية، المطاطة والكثيفة، وتتجاوز الحيز التقليدي للحروب اي المواجهة بين دول وامم، فهي صراعات تتخذ سمات متعددة ثقافية ودينية وقومية.. تلتقي في كونها تتحدى الشكل المؤسسي للدولة ذات السيادة، بقدر ما تشكل تمردا على ديناميكية العولمة الراهنة بما تفضي اليه من قولبة شاملة للعلاقات بين الامم والحضارات.

فأغلب الصراعات التي تفجرت بعد نهاية الحرب الباردة كان منشأها تركة الامبراطوريات والائتلافات المتعددة القوميات والديانات، التي تحللت او هي في طور التحلل حاليا: مثل الفيدراليات السوفياتية واليوغوسلافية والتشيكوسلوفاكية ـ وكلها تنتمي للعالم الاشتراكي المندثر، لكي تضاف اليها ائتلافات لا تنتمي لهذا العالم كما هو شأن الامبراطورية الاندونيسية التي تشهد حاليا نذر التفكك.

ويكفي ان نلقي نظرة مقتضبة على بؤر التوتر في العالم حتى ندرك ان مخاطر الصراع والتصادم لا توجد فقط على حدود الفضاء الاسلامي، كما تكرر الأدبيات الامريكية حاليا. وابرز هذه البؤر في الوقت الحاضر هي: الصراعات اللامحسومة في القضاء الروسي الواسع (ليس فقط على الجبهة الشيشانية وانما في جورجيا وارمينيا والحزام الاسيوي الأقرب) النزاع الياباني ـ الصيني الكامن، الصراعات الداخلية والاقليمية الافريقية، «امارات المخدرات» في امريكا اللاتينية.

لقد بين شارلمز جونسون في كتاب صادر مؤخرا حول تكلفة ونتائج الامبراطورية الامريكية، ان خطاب الصدام والمواجهة الذي تبثه الادارة الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة فوت عليها فرصة الاضطلاع بدور الحكم والرقيب في عالم تنفرد فيه بالهيمنة، وحولها الى الضحية الأولى لحرب لا متوازية، التبست فيها الوجوه والرهانات والاهداف.