هل سيبقى العراق موحدا عام 2002؟

TT

هذا العنوان ليس من عندي أو من عند السيد مدير تحرير «الشرق الأوسط»، أو تمنيات لمنجّم أو فلكي، وإنما هو عنوان لمراجعة دراسة (هل سيبقى العراق لغاية 2002)، التي أجراها عام 92 (غراهام فولر)، عضو المجموعة الاستشارية لمؤسسة (راند) التابعة لمعهد بحوث الدفاع الوطني الأميركي، الذي يشرف عليه (البنتاغون)، ووضع فيه خيارات لمستقبل العراق بدت في حينها نوعاً من خيال كتّاب السيناريوهات، وذلك لعنايته بتحليل المستقبل أكثر من التاريخ. ولعل من الطريف مراجعة عرض تلك التنبؤات السياسية ليس من أجل بيان وقوعها أو عدمه في الزمن المحسوب، لأن حسابات السياسة ليست نوعاً من التنجيم الفلكي، خصوصاً بعد التغيير الجوهري في اتجاهات العالم السياسية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وإنما لتوضيح المنهج الطائفي الذي اعتمد عليه (غراهام) قبل عشر سنوات، وما زال يروج له من قبله ومن قبل أوساط أميركية وغير أميركية، وهو المنهج الطائفي في استقراء التوجهات السياسية والاقتصادية لصياغة المستقبل العراقي.

والخلاصة الموجزة لتقرير (غراهام) في مسألة السلطة السياسية تقول: بأن الدولة العراقية قائمة على أساس الأقلية السنية منذ عام 1921، وان الحل الطبيعي هو عودة الغالبية الشيعية لحكم العراق. أي قلب الهرم السياسي وجعله قائماً على حكم الشيعة وتحول السنّة إلى تابعين للسلطة، وللوصول إلى هدف الحصول على السلطة في بغداد وجد (غراهام) في ذلك الوقت خيارين أساسيين:

الأول، شلّ وتفتيت مرتكزات وعناصر النظام السياسية والعسكرية لكي يسهل الانقضاض النهائي عليه وإزاحته، وذلك باستخدام «الأمم المتحدة» من خلال قرارات دولية متواصلة من العقوبات الشاملة، وقرارات تؤدي إلى تكتيف جسم الحكومة الحالية ومنعها من استخدام وسائلها العسكرية والأمنية لمواجهة حركة خصومها المحليين المدعومين دولياً، وتسهيل مهمتهم في الاستحواذ على السلطة. وهنا يدخل مشروع (منطقة الجنوب الآمنة) إلى جانب منطقة الشمال الحالية كوسيلة ميدانية قادرة على تحقيق هدف سيطرة (الشيعة) على الحكم حسب منظور غراهام.

الخيار الثاني، وهو قيام الانقلاب العسكري، لكن مشكلة هذا الخيار حسب رأيه، أنه لا يعيد السلطة «للغالبية الشيعية» مباشرة، إلا بعد فترة عمليات سياسية وعسكرية طويلة وشاقة تشمل مؤسسة الجيش العراقي الذي تحوّل منذ عام 21 إلى متنفّذ ثم أصبح في ظل حكم (حزب البعث) بعد عام 68 قوة سياسية نافذة، فالتفكير بإزالة نظام حزب البعث الذي يعتبره العقدة السياسية الرئيسية وليس (صدام حسين) وحسب، لا يتحقق بسبب وجود المؤسسة العسكرية العراقية (السنّية) ولهذا يتطلّب رفع الشعار الديمقراطي كوسيلة وصفحة أولى للهدف الأخير وهو وصول الشيعة للحكم، وجعل المؤسسة العسكرية في الخلف.. أي أن يسلّم القائد العسكري الذي من المحتمل أن يقود الانقلاب، الحكم للسلطة الانتقالية برعاية الأمم المتحدة، ومن ثمّ حكم الغالبية الشيعية للعراق. يقول غراهام «ففي حال سيطرة الأقلية العربية السنّية على قيادات الجيش يمكن القول بكل ثقة بأن الجيش سيميل إلى تمثيل الرؤية العربية القومية وانه سيعارض بشدة كل ما من شأنه تهديد الهيمنة السنّية في الحكومة والجيش والشخصية الموحدة للدولة العراقية».

ومشكلة سيناريو (غراهام) كما يرى لتغيير النظام السياسي في العراق هي في الكيفية التي يمكن فيها الحصول على السلطة عبر الجسر العسكري من دون أن يكون لهذا الجسر أية تأثيرات على الطيف السياسي للحكم.. ولهذا يقرّر ضرورة إجراء عملية مخادعة لقائد عسكري سنّي يحكم لعدّة أشهر ثمّ يسلم السلطة لغيره. لأن استعداد قائد عسكري ليبرالي غير معروف وغير متوقع للتعاون مع سياسيين ليبراليين أمر صعب التحقيق. ولهذا يميل غراهام إلى خيار الضغط الدولي عبر الأمم المتحدة لإحداث التغيير السياسي في العراق.. فيقول «إن الضغوط الخارجية هي الأداة الأكثر فعالية للتغيير، وكسر دورة سيطرة الجيش. وإن استمرار العقوبات الدولية هو المصدر الواقعي الوحيد للضغوط الخارجية التي يمكن أن تضع ثمناً باهظاً ومستمراً على مستقبل العراق حتى يتم اسقاط (صدام) ويسمح الجيش بإجراء الانتخابات بإشراف دولي». وهو إذ يدعو إلى إبقاء العقوبات بعد حدوث الانقلاب العسكري حتى يستجيب الجيش للمطالب في إجراء الانتخابات، فإنه يحاول أن يقدّم السبل المعقولة لوصول الشيعة إلى الحكم فينصحهم لكونهم لا يمتلكون القدرة على إحداث الانقلاب العسكري أن يقوموا بإجراء «المفاوضات مع خلفاء صدام العسكريين، أو إجراء انتخابات حرة».

وقد كانت آمال غراهام لنهاية نظام (صدام حسين) خلال عقد من السيناريو المفترض من عام 92 إلى عام 2002 في الاعتماد على العقوبات الدولية لكونها حسب تعبيره «المصدر الوحيد للضغوط الخارجية التي يمكن أن تضع ثمناً باهظاً ومستمراً على مستقبل العراق حتى يتم اسقاط صدام ويسمح الجيش بإجراء انتخابات بإشراف دولي».

لقد رسم غراهام بعض التصورات الاستراتيجية الافتراضية لعلاقات العراق مع الإقليم المحيط به في العقد المبتدئ عام 2002 في ظل (السلطة الشيعية)، خصوصاً مع كل من الكويت وإيران وتركيا، فجعل من علاقة الأغلبية الشيعية الحاكمة في العراق وبين الشيعة الكويتيين مسألة مثيرة لمخاوف السلطة الكويتية السنّية الحاكمة، وستشكّل مسألة المنفذ المائي العراقي على الخليج من وجهة نظره التصعيد الجيوبولوتكي الأكبر في العلاقات الكويتية ـ العراقية، اضافة إلى ترسيم الحدود الذي منح الكويت امتيازات في أم قصر، الموضوع المرجح للانفجار في المستقبل. أما مع تركيا فستلعب هذه الدولة الجارة الورقة الكردية بشكل يلحق الأذى بالعراق، وليس العكس، اضافة الى الأطماع التاريخية في مدينة الموصل العراقية. وسيظل العداء الجيوبولوتكي قائماً بين إيران والعراق، وسيكون لتأثير أميركا في تحريك نظام أي من البلدين نحو الاعتدال عنصراً في زيادة الخصومة في ما بينهما.. فوجود نظام ليبرالي غربي في العراق يعني خللاً في المعادلة مع نظام راديكالي أصولي في إيران.. يدعو (غراهام) لكي تبدو طروحاته قابلة للتحقيق، المثقفين والسياسيين من الطائفة الشيعية الى تكوين أحزاب من داخل طائفتهم تخرج من طوق الأصولية إلى العلمانية، وهو يخلط ما بين الحركات السياسية الأصولية الشيعية وبين الانتماء القومي العروبي، فيعتبر كل سياسي شيعي ضد القومية العربية، ومن ان الحركات السياسية السنّية هي التي استحوذت على العروبة.. ولذلك ينبّه من خطورة ما يواجهه الشيعة حتى عام 2002 وضرورة أن ينشئوا لأنفسهم حركة علمانية تمكنهم من أن يلعبوا دوراً في السياسة المستقبلية للعراق فيقول «من المزعج أن تنجذب الأحزاب العلمانية الشيعية لأحزاب آيديولوجية ذات شخصية ليست دينية ولا عرقية في حين كانت الأحزاب العروبية تميل إلى أن تكون سنّية».

والخلاصة هي ان (غراهام) يضع في دراسته التي جعل موعد عام 2002 احتمالاً لتحققها، العديد من الافتراضات القائمة على الخيار الطائفي، من بينها شكوكه في بقاء العراق دولة موحدة لأنه دولة متعددة الطوائف والأعراق.. ولأن العالم أصبح يظهر تقبّلاً متزايداً للنزعات الانفصالية، وليؤكد هذا المنهج في اليوم الأول من آخر موعد لتوقّعه 2002 في مقالته «مستقبل العراق» ووفق تعديل لوجوستي لخيارات تغيير نظام الحكم في العراق يناسب الدعوات الأميركية للضربات العسكرية الواسعة، فهو يختلف مع الصقور في واشنطن الداعين إلى ضربة فورية، ويقف إلى جانب الحمائم القائلين بضرورة بناء آيديولوجية سياسية في منطقة الشرق الأوسط تساعد الرئيس بوش على تحقيق الهدف عن طريق فتح الطريق لحلّ سياسي للمسألة الفلسطينية لكي «لا يقول العرب إن ضربة العراق هي لصالح إسرائيل»، وتأكيده مرة أخرى «أعتقد ان هناك تساؤلات حقيقية بشأن قدرة العراق على أن يبقى موحداً».

قد يقلّل بعض السياسيين العراقيين المعنيين بشأن بلدهم وخيارات مستقبله السياسي من المخاوف الجدّية التي تثيرها طروحات (غراهام) أو غيره من السياسيين الأميركان، لكونها لا تمثّل موقفاً رسمياً للإدارة الأميركية الحالية، ولا تعدو كونها واحدة من وجهات النظر الأميركية المستشرفة لمستقبل العراق السياسي، إلاّ أن الإصرار على تأكيدها خلال هذه الأيام كصورة مفترضة لمستقبل النظام السياسي في العراق، يجعل منها رسالة أكثر من كونها اجتهاداً نظرياً، يتجاهل المكونات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي شكلتها جميع الطوائف والأعراق العراقية وفي مقدّمتها الطائفة الشيعية في تجسيد وحدة العراق، وتفسيراً انتقائياً منغلقاً يتعامى عن حقيقة شمول حالة الظلم والاستبداد جميع الطوائف والأعراق، لتبرير النزعة الطائفية في الحكم المرفوضة من جميع الأطياف السياسية العراقية.

ليس هنا مجال الإجابة عن تساؤل (غراهام) هل سيبقى العراق عام 2002؟ ومناقشة منهجه، فحقائق التاريخ والسياسة والجغرافية تجيب: بأن العراق سيبقى حتى بزوال نظام (صدام حسين) الذي يتمناه الجميع، والرهان في تحقيق هذا الهدف سيكون على المؤسسة العسكرية، الحافظة الوحيدة لأمن ووحدة العراق وهويته التاريخية.

قد يتراءى للبعض بأنه لم تعد المقاسات الوطنية مناسبة لموديل النظام السياسي المقبل ولوسائل صياغته، وتضاعف وهم هذه الرؤية في الربع الأخير من عام 2001 بعد واقعة نيويورك وحرب افغانستان، في حين ان المثالين يؤكدان حقيقة معاكسة لهذا الوهم.. فبعد الحادي عشر من سبتمبر أعيدت بقوّة صياغة (الوطنية الأميركية) التي سكنت منذ الحروب الكبرى، على الرغم من تشكّلها في عهد زمني قريب من أعراق عديدة وتحت الخيمة الاتحادية الأميركية. وفي مثال افغانستان تبدو الرؤية الأميركية الرسمية اكثر وضوحاً في عدم الخضوع للحسابات العاطفية لأصدقائهم من المعارضين السياسيين الأفغان، والاستماع إلى حسابات حقائق الساحة الداخلية وقواها السياسية والاجتماعية الفاعلة في صياغة الحكم.

* سفير عراقي سابق [email protected]