ما وراء الحملة على المملكة العربية السعودية؟ (2)

TT

لا شك ان هناك الكثير في عالمنا العربي من يرى ان اسرائيل قد غرست في بلادنا لتخدم اغراضا استعمارية بحتة للولايات المتحدة ولدول الغرب الاخرى، وهو قول قد يكون مقنعا للكثير منا وقد يكون هو الحقيقة بعينها مما ستثبت الأيام صحته من عدمها.

من وجهة نظري، فإنني اتصور ان العكس هو الصحيح، فالقادة الامريكيون محكومون بوجه عام، في مواقفهم هذه تجاه المنطقة ومشاكلها ودولها، بما يحقق اهداف ومصالح السياسة الاسرائيلية، وليس متطلبات السياسة الامريكية الحقيقية، فالولايات المتحدة القوة الاعظم في عالم اليوم، لا تستطيع التحرك قيد انملة بالنسبة لما ترى اتخاذه من مواقف سوى ما يؤيد وجهة النظر الاسرائيلية.

ولمحاولة فهم ما تحتله دولة اسرائيل ومن ورائها القوى اليهودية ـ الصهيونية ـ النافذة في الولايات المتحدة وفي الغرب عموما، علينا العودة الى مراحل تاريخية متقدمة تسبق عام 1948، عام تأسيس هذه الدولة. ففي اواخر القرن الثامن عشر نوه القائد الفرنسي الكبير نابوليون بونابرت اثناء احتلال جيوشه لمصر وفلسطين وحصاره الشهير لمدينة عكا، بأهمية استيطان اليهود للارض الفلسطينية. وكان نابوليون يهدف من وراء هذا الاعلان الى الحصول على قروض من الاثرياء اليهود في اوروبا لتمويل حملاته العسكرية الطموحة، كما ان عددا من المنظمات الدينية المسيحية واليهودية سعت جاهدة في اواسط القرن التاسع عشر، مع القائد المصري ابراهيم محمد علي باشا اثناء حكمه لبلاد الشام، للسماح لها بانشاء مراكز استيطانية على بعض الاراضي الفلسطينية، إلا انه رفض ذلك الطلب.

كما استمرت المحاولات مع السلاطين الاتراك بدون طائل، إلا انه تم في اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، زرع عدد محدود من المواقع الاستيطانية في فلسطين بصفة خاصة، تم الاتفاق بشأنها مع الوالي العثماني فيها. ثم تطورت الامور بعد نشوب الحرب العالمية الاولى في عام 1914، والذي يهمنا منها هنا هو صدور وعد بلفور في عام 1917 بجعل فلسطين وطنا قوميا لليهود.

وبنشوب الحرب العالمية الثانية في عام 1939 وما سبقها وتخللها من تطبيق السياسات النازية الالمانية المتناهية الشدة تجاه الاقليات اليهودية في اوروبا، ساعدت على نزوح عشرات الآلاف منهم الى فلسطين. وقد اعتبر البعض ان اعلان انشاء دولة اسرائيل يعد مغامرة كبرى، إلا انها كانت بالنسبة للقادة الصهاينة في فلسطين وخارجها مخاطرة محسوبة.

لقد شعر المخططون الصهاينة، منذ البداية، ان مغامراتهم هذه لا بد ان تعترضها سلسلة طويلة من العداوات السياسية والصراعات العسكرية وخلافها، باعتبار ان دولتهم هذه عبارة عن عنصر غريب زرع قسرا بتربة ارض لا تخصها، وان محيطها العربي الواسع لا يمكن ان يتقبلها في وسطه من بعيد او قريب.

إلا ان الورقة الرابحة التي كانت بيد الزعماء الصهاينة في اسرائيل وخارجها، والتي كانت حسب قناعتهم، هي الكاسبة في النهاية، تتمثل في احتمالات ان تواجه المنطقة من الامور ما سيشغلها عنهم من قضايا وخلافات داخلية وانقلابات وصراعات وحروب اهلية واقليمية كردود فعل طبيعية لما حدث على ارض فلسطين، اضافة الى ما يمكن ان تقوم به اجهزة الاستخبارات الامريكية والاوروبية والاسرائيلية من تأجيج للعوامل والسياسات الطائفية الساكنة نيرانها بطريقة او بأخرى. ان هذا التصور بالذات هو ما كان يدور في مخيلة ديفيد بن جوريون اول رئيس وزراء اسرائيلي كشف عنه تصريح ادلى به في احدى المناسبات التي تلت الاشهر الاولى لاعلان انشاء الدولة.

ان من يرصد الاحداث الكبيرة التي لعبت دورها في منطقتنا العربية في الخمسين سنة الاخيرة ابتداء من الانقلاب الذي قاده الزعيم حسني الزعيم في سورية عام 1949 وما تلاه من احداث، وهزات مماثلة في سورية وعدد من الدول العربية الاخرى، وما عاشته سورية والمنطقة عموما من عقود مشحونة بالانقلابات والمشاحنات والصراعات التي لا حصر لها، يؤكد صحة توقع بن جوريون. اما بالنسبة للعناصر الشابة التي تحركت خلال هذه العقود لاسقاط بعض الانظمة الشرعية القائمة آنذاك متناسية تماما ما لمعظمها من تاريخ حافل بالمواقف الوطنية المشرفة، فقد اعتقدت ان معالجة مشاكلها القائمة وتحقيق التقدم المنشود في ميادين النمو والتطور لا يمكن ان يتحقق إلا عن طريق التحركات الثورية والانقلابات العسكرية، غير مدركة ان التحرك من قبل فئة عسكرية او حزبية لالغاء نظام شرعي قائم بمؤسساته ورجاله سيعطي الضوء الاخضر لفئات اخرى لتكرار ما حدث، خاصة ان قضية فلسطين لا بد ان تدخل بطريقة او بأخرى كمحور اساسي بالنسبة لهذه الحركات، فيما يدفع الشعب الثمن الغالي من امنه وقوت يومه ومستقبل ابنائه، وهو المهدد دوما بمثل هذه الهزات والقلاقل.

ومن غير المستبعد ان يكون هناك الكثير ممن قد يشككون في قدرات القوى اليهودية ـ الصهيونية، على حبك المؤامرات الاقليمية والدولية، والسعي بشتى الوسائل للوصول الى غايتها واهدافها للتحكم بمجريات الامور في معظم القضايا الدولية، خاصة ما يتعلق منها بأهم المنعطفات التاريخية في القرن العشرين. وفي ما يلي تنويه مقتضب للبعض منها مما له في نظري تأثير او علاقة بالكارثة الكبرى التي وقعت في منطقتنا العربية:

ـ كان رفض السلطان عبد الحميد الثاني سلطان الدولة العثمانية بالرغم من الاغراءات المالية التي عرضت عليه، اعطاء اليهود وطنا على ارض فلسطين، السبب الاهم في حدوث الانقلاب العسكري عليه بواسطة رجال تركيا الفتاة من الضباط العثمانيين في عام 1908 كطلعت وانور وجمال. وقد سمع السلطان عبد الحميد بأذنيه التهديد والوعيد الذي وجهه له امانويل قره صو، احد الزعماء اليهود الذين اجتمعوا به في قصر يلدز، مؤكدا ان مطلبهم سيتحقق مهما كان الثمن عن طريق سواه. وكان امانويل هو بالذات من ابلغ السلطان بقرار خلعه عام 1909 حسب ما اوردته مجلة «العربي» في عددها (512).

ـ عندما بدأت الازمة الدولية عام 1914 وادت الى اشتعال نيران الحرب العالمية بين النمسا والمانيا من طرف وروسيا القيصرية وفرنسا وبريطانيا العظمى من طرف آخر، كان السبب المباشر لها مقتل ولي عهد النمسا في مدينة سراييفو الصربية آنذاك.

وهكذا بدأت الحرب العالمية الاولى التي انسحبت منها روسيا بعد قيام الثورة البلشفية ـ الشيوعية فيها عام 1917. واللافت للنظر هنا ان عددا لا يستهان به من زعمائها كانوا من بين اليهود الروس.

اما نتائج الحرب الرئيسية الاخرى فهي سقوط امبراطوريات ثلاث هي: النمسا والمانيا والدولة العثمانية، وبانتصار الحلفاء تم تقسيم اراضي الدول المهزومة ومنها الدولة العثمانية، لتصبح معظم اراضي منطقتنا مناطق نفوذ تتقاسمها كل من بريطانيا وفرنسا، وكانت فلسطين العربية من ضمن حصة بريطانيا العظمى لغرض في نفس يعقوب، باعتبارها خطوة لاحقة لوعد بلفور المشؤوم.

ـ خلال سنوات الحرب العالمية الاولى قدم الزعماء اليهود في اوروبا وامريكا خدمات ثمينة للدول المتحالفة.

ـ لم يكن بالامر المستغرب ان تحرص بريطانيا مع نهاية الحرب في عام 1918، بأن تكون فلسطين ضمن المناطق التي تقرر ان تنتدب لادارتها حسب اتفاقية سايكس ـ بيكو الموقعة بين كل من فرنسا وبريطانيا العظمى والمقرة في ما بعد من قبل عصبة الامم التي اسست في اعقاب الحرب.

ولتكتمل المؤامرة المحبوكة مسبقا فقد تولى تشرشل وزارة المستعمرات وانتدب في الوقت نفسه هربرت صامويل اليهودي البريطاني ليتولى مهمة المندوب السامي في فلسطين.

ـ كان موقف اليهود الاوروبيين من المانيا اثناء الحرب العالمية الاولى من اهم الاسباب التي دفعت بالنظام الالماني النازي بزعامة المستشار ادولف هتلر، الذي تولى شؤون الحكم في عام 1933، الى تبني تلك السياسة العنيفة داخل المانيا وفي البلاد الاوروبية في ما بعد، وهو ما دفع بالكثير منهم للهجرة نحو فلسطين كما سبقت الاشارة.

ـ مع نشوب الحرب العالمية الثانية تمكن عدد من اليهود من الحصول على جهاز الشفرة الالماني المسمى انجما. وقد قدمت هذه الهدية الثمينة للاستخبارات البريطانية مما ساعد بريطانيا على الاطلاع على الكثير من حركة وخطط القوات الالمانية اثناء الحرب.

ـ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قام العالم النووي اليهودي فوخس البريطاني الجنسية وآخرون، منهم السيد والسيدة روزنبرج من الولايات المتحدة، بايصال بعض او معظم اسرار القنبلة الذرية الامريكية للاتحاد السوفياتي مما مكنه من تطوير قدراته النووية في مواجهته مع الولايات المتحدة وحلفائها في مستهل الحرب الباردة بين المعسكرين، وهو ما قد يفسر موقف الاتحاد السوفياتي المتعاطف جدا ومنذ البداية مع دولة اسرائيل عند انشائها، بل ان اول اسلحة ذات فعالية تسلمتها اسرائيل في بداية معارك حرب فلسطين عام 1948 كانت قادمة من دولة تشيكوسلوفاكيا التي كانت في منظومة المعسكر السوفياتي في ذلك الوقت.

ومما يصعب على المرء تخيله ان تقع نسبة كبيرة من فئات الشعب الامريكي، بالرغم مما حققه هذا الشعب من انجازات علمية وصناعية وثقافية لم يسبق ان حققها شعب من قبل، بهذه السهولة والكيفية التي نراها ماثلة امامنا كل يوم، في شراك القوى الصهيونية المتحكمة في الاقلية اليهودية في الولايات المتحدة والتي لها من الوزن والفاعلية على واقع حياة المجتمع الامريكي ما يفوق بمراحل عدة حجمها الصغير.

وقد تكون طبيعة المجتمع الامريكي وميله للبساطة واخذ الامور بظواهرها العملية ما جعل نظرته في تقييمه للشؤون العامة مرتعا خصبا لأي تأثيرات تستهدفه من قبل فئات منظمة وذات اهداف ومصالح محددة، وبالتالي فإن الحقيقة بالنسبة له هي ما يراه او يسمعه او يقرأه، كما ان ما لا يقبله العقل او المنطق ان نتصور ان هناك اعدادا لا يستهان بها من افراد الشعب الامريكي ممن يتحلون بالمشاعر الوطنية الحقة لديهم الاستعداد للتعاطف مع نظرية تكريس الكراهية ومشاعر العداوة نحو الشعوب او الاجناس او الاديان الاخرى والتي لا بد ان تبادله في نهاية الامر ذات الاحاسيس والمشاعر.

ان مثل هذه الامور لا بد ان تثير العديد من علامات الاستفهام حول جوهر النظام الديمقراطي في حالة تعرضه لمثل هذه التأثيرات. وبالرغم مما كتب وقيل عن هذا الوضع البالغ الفرادة، خاصة مواقف الحكومات الامريكية المتعاقبة منا وما سببّه ذلك من مشاعر معادية لها ولسياساتها تجاه المنطقة، خاصة ما يتصل بقضيتنا الكبرى، فإن ردود فعلنا يجب ان تكون محكومة بالكثير من الحكمة والتروي في مواجهة هذه المواقف، وعشمي ان لا يفهم ما اوردته هنا بأنني احبذ تبني سياسة الاستسلام لما تمليه علينا امريكا في هذه المنطقة والقوى اليهودية ـ الصهيونية ـ فيها، بل ان ما اقصده هو ان نوجه اهتماما اكبر، خاصة من قبل القادة والمفكرين والاقتصاديين وخلافهم، لمعرفة حقيقة وطبيعة الوضع القائم داخل المجتمع الامريكي وانعكاسه على اوضاعنا كأمة عربية اسلامية واحدة مهما تعددت فيها الاوطان، والعمل بكل جدية على التغلغل في مختلف اوساطه وما يدور في خفاياه بهدف التمكن من تحديد مراكز القوة والضعف المؤثرة فيه، والتفهم الحقيقي لقيمه ومفاهيمه واهتماماته السياسية والاجتماعية والثقافية والمالية وخلافها، مما قد يكون له صلة او ينصب من بعيد او قريب على اوضاعنا وحياتنا في المنطقة، آخذين في الاعتبار ما يرتبط منها بنفوذ القوى الصهيونية المعادية لنا. ومما قد يساعد في انبعاث هذا التوجه الجديد ونجاحه ما يلي:

* ان تقوم السفارات العربية والمكاتب الثقافية والاعلامية بدور اكبر مما تقوم به الآن لتخوض بكل عزم وتصميم في وسط المعمعة في كل ما يدور او يهم افراد المجتمع الامريكي او يؤثر على شؤون حياته اليومية.

* ان تولي الدول العربية والاسلامية اهتماما اكبر بأبنائها المهاجرين وحثهم على تنظيم انفسهم بصورة اكثر فعالية مما هو حاصل في الوقت الحاضر.

* ان تولي الجانب الاعلامي اهتماما اكبر، فلدينا العشرات من المحطات الفضائية التي تبث برامجها علينا ليلا ونهارا، وعلى اوروبا وامريكا عما يدور في المنطقة من اخبار واحداث، الا انها موجهة باللغة العربية او انها محصورة في من سيسمعها من المواطنين العرب ايا كان وجودهم، وكأنهم بحاجة لمعرفة المزيد مما يدور في بلادهم من احداث ومآس في الوقت الذي لا تولي اي محطة من هذه المحطات ذات الميزانيات الضخمة، الشعوب الاخرى والتي لا تتكلم العربية، اي اهتمام.

* ان نبدي اهتماما اكبر بالجاليات الامريكية والغربية التي تعيش بين ظهرانينا، وان الكثير منهم حسب علمي يرغب في معرفة طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه وتفهم عاداته وتقاليده وكل ما يهمه في حياته إلا انها لا تجد الاهتمام او الترحيب الكافي المطلوب من ابناء هذه المجتمعات، وهذه الجاليات اذا عوملت واستقبلت بالصورة السليمة سيكون افرادها سفراء لنا في اوطانهم.

ان تحديات المستقبل الملبد بالغيوم السوداء والاخطار التي تطل علينا من الافق البعيد تحتم علينا التصميم على وحدة الصف والوقوف وقفة رجل واحد في مواجهة ما يعنيه ذلك من تهديد لمصيرنا ولمستقبل اجيالنا، فالعامل الجديد الذي دخل في دائرة العلاقات العربية ـ الامريكية وهو قضية الارهاب في ضوء ما حدث في 11 سبتمبر، تسعى اسرائيل لاستغلاله بكل ما لديها من قدرات سياسية واعلامية لصالحها في ميدان المجابهة القائمة بينها وبين الدول العربية والدول الاسلامية من ورائها.

وكحقيقة ثابتة فإن عالمنا العربي يقف في هذه المرحلة البالغة الاهمية من تاريخه، امام خيارين لا ثالث لهما، إما الانتظار وتقبل المصير المحتوم المتمثل في خطط دولة اسرائيل وطموحاتها حيال هذه المنطقة الهادفة للتحكم والهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية في مصير ابنائها وثرواتها الاقتصادية والطبيعية الهائلة، او الوقوف وقفة رجل واحد والارتفاع الى مستوى المسؤوليات التاريخية المطروحة امام قادته ورجاله.

وان ما تختزنه ارضنا العربية من خيرات وامكانات بشرية وجغرافية واستراتيجية لا حصر لها، الامر الذي تدركه الولايات المتحدة واوروبا كل الادراك، لا بد ان يكون له انعكاساته في حساب هذه الدول وسياساتها نحو المنطقة متى ما اتضح امامها ان القيادات العربية التي عليها ان تتعامل معها تمثل جبهة متماسكة بكل طاقاتها في وجه كل من يهدد امن وسلام المنطقة او يلحق الضرر بحاضر ومستقبل أبنائها.