الإنسان والحيوان

TT

من أول أغاني الطفولة التي حفظتها كانت أغنية شعبية للأطفال تقول:
خالد دخل للغرفة شاف القطة ملتفة ضربها هواية هواية قمزت عليه فد قمزة فقست له عينه اليسرى حفظت هذه الترنيمة، لكنني لم أعش بوحيها وظلّت عيني اليسرى سالمة. بقيت علاقاتي طيبة بالقطط، بل سائر الحيوانات. وهذا كما يبدو لي ما جعل حديقة بيتنا ملاذاً لها، فمن ضيوفي المداومين فيها ثعلب وسنجاب وعدة قطط وشتى أنواع الطيور. تعيش كلها بسلام ووئام. قبل بضعة أعوام ـ جاءت قفنذة وولدت ثلاثة قنافذ صغار فيها، وبقيت فيها حتى كبرت. سألتها عن زوجها، فهزّت رأسها على نحو ما يفعل الكثير من نساء شعرائنا. ربما يتصور القارئ أن حديقتنا بستان عامر يمتد لمئات الأمتار، يشجع الحيوانات على المجيء إليه، لكن هذا خلاف الواقع. فهي حديقة انكليزية لا تتجاوز مساحتها العشرين أو الثلاثين متراً. استطيع أن أفهم مجيء الطيور إليها، لأنني اعتدت على توفير الطعام لها عندما تغطي الثلوج كل شيء شتاء، ويتعذر على الطيور الحصول على شيء تأكله، لكن أمر هذا السنجاب يحيرني، فهو يعتقد أن بيتي بنك من البنوك الكبرى. فحالما تلوح معالم الشتاء، يبادر إلى خزن الطعام ودفنه في الحديقة لأيام الحاجة، أيام الثلج والصقيع، عملاً بالحكمة التي نقولها ولا نطبّقها «القرش الأحمر ينفع في اليوم الأسود».

كنت جالساً وراء النافذة عندما رأيت هذا السنجاب يأتي وبفمه لوزة برازيلية كبيرة ليدفنها، حفر الحفرة المناسبة وراء شجرة التفاح، ثم وضع اللوزة فيها. وبينما كان يهم بمواراتها بالتراب، نظر فوجدني أراقبه، جمد في مكانه، ولعدة ثوان ظل يحدق في وجهي ويفكر. انتهى به التفكير بأن عاد وأخرج اللوزة من الحفرة وهرب بها ليدفنها في مكان آخر، حيث لا أراه. لا شك أنه في تلك الثواني من التفكير تذكر أن الإنسان حيوان لا يؤتمن على شيء، لا يترك فرصة لينهبك ويأكل حلالك. ربما تذكر وهو يحدق في وجهي العربي ما قالته الصحافة الغربية عنا، فتعوّذ من الشيطان وراح يبحث عن حديقة أخرى يأمن فيها على خزينه.

بعد ساعات قليلة، جلست مساء لأتفرج على فلم «شاكلتون»، ذلك المستكشف البريطاني الذي حاول الوصول إلى القطب الجنوبي في أوائل القرن المنصرم. كان من مشاهده الظريفة منظر طيور البنغوين، التي ما كادت ترى البعثة الجغرافية البريطانية حتى خفت إليها تتفرج على رجالها بدون أي خوف أو تردد. سمعت بأن هذا ما تفعله المخلوقات القطبية التي قضت ملايين السنين دون أن تقع أنظارها على إنسان، وبالتالي عاشت كل هذه السنين دون أن تعرف شيئاً عن مكره وخبثه وشروره. لهذا كانت لا تتردد في الاقتراب منه. أقول «كانت» بالماضي، لأنني لا أعتقد أنها ظلت على تلك البراءة والثقة بالإنسان، أو بعبارة أخرى، لم تكتشف بعد ما اكتشفه السنجاب من خبث بني آدم. تابعت الفلم الرائع حتى رأيت كيف كشف الإنسان عن حضارته لطيور البنغوين. أخرج بندقيته وراح يصطادها طعاماً له، لا بل ذبح حتى الكلاب التي ساعدته في جر مزلجاته على الثلج طوال عشرات الأميال. بعد كل ما قامت به من خدمة وأبدته من صبر، ذبحها وأكلها، ليس ذلك فقط، وإنما ليعود إلى بلاده يكتب وينشر الكتب والمجلات الملونة الجميلة عن جمال البنغوين وإخلاص الكلاب وروعة عالم الحيوان! آه! قُتل الإنسان ما أكفره، وما أكذبه.