مسيرة التنبيه السعودي: من دمشق إلى مسقط .. إلى قمة بيروت نجَّاها الله

TT

اما وقد استقر نسبياً امر القمة العربية الدورية الثانية التي من المقرر أن يستضيفها لبنان اواخر مارس (آذار) المقبل وبدأت تغيب في الافق الهزة التي احدثها رئيس برلمانه الاستاذ نبيه بري في تصريحه الشهير والمفاجئ المتعلق بتفضيله تأجيل هذه القمة... اما وقد حدث هذا الاستقرار النسبي فإننا نتمنى ان تكون روحية القمة واجواؤها منطلقة من مضمون مسيرة التنبيه السعودي التي شكلت محطتان منها ما يجوز اعتباره نصيحة للجميع: الجار القريب منهم قبل البعيد، والشقيق المندفع قبل الصديق غير المتفهم.

والمحطتان اللتان نعنيهما هما المحطة السورية والمحطة العمانية. وما بين هاتين المحطتين كانت هنالك رسائل تنبيه عابرة تمثلت بمضامين تصريحات او رسائل او برقيات موجهة الى حكام خلال المرور في اجواء بلادهم. ومن باب المصادفة ان المحطتين جاءتا خلال سنة واحدة. الدمشقية في النصف الاول من السنة والعمانية قبل ساعات من غياب شمس النصف الثاني من العام 2001 ليبدأ العام 2002 تملأ آفاقه إشراقات واعدة بأحوال افضل.

نبدأ بالمحطة الاولى فنستحضر تلك الزيارة كثيرة التميز التي قام بها ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز الى دمشق في يونيو (حزيران) الماضي بادئاً منها جولة خارجية مهمة. والقول ان زيارة دمشق كانت كثيرة التميز على اساس ان ولي العهد السعودي سنَّ ما يشبه التقليد الخاص بسورية حيث انه بعد كل زيارة رسمية له خارج المملكة يتوقف في طريق العودة في دمشق بهدف التشاور والاطمئنان مع الصديق الدائم للمملكة الرئيس حافظ الاسد. وبعد رحيل الاسد الاب اراد ولي العهد أن يبدأ بدمشق الزيارات الرسمية الاولى له خارج المملكة كنوع من المؤازرة للاسد الابن الدكتور بشار الذي كان بدأ رحلة الحكم المتواصل. وفي زيارته التي نشير اليها عقد الامير عبد الله ثلاثة اجتماعات مع الرئيس بشار، ثم اطلق خارج الحديث في اللقاء المغلق، الذي يكون عادة اكثر حزماً، تصريحاً ايقظ اطرافاً عربية ودولية كثيرة من حالة الاسترخاء التي هم عليها، واستوقف ارييل شارون رئيس الحكومة الاسرائيلية الذي كان يمعن تدميراً وقتلاً وجنوناً وجرفاً وقصفاً واغتيالاً في حق الفلسطينيين وعلى ارضهم. قال الامير عبد الله: «فليفعل شارون ما بدا له، فاليوم قد يكون يومه وغداً لنا ان شاء الله. فكل قطرة دم عربية واحدة سالت على ارضنا العربية المغتصَبة لها جزية الدفع عند من اراقها. وليس العرب والمسلمون من يقبلون بغير حقهم كاملاً جزية. ان كل رحم امرأة عربية ابية يحمل في احشائه ثأراً، وكل شهيد عانق الثرى ترك خلفه صرخة مدوية في صور كل طفل يتطلع الى الاستشهاد...». ثم انتهى الى القول: «هل يظن عاقل في الارض ان المظلوم سيقبل بظلمه وان الجريح سيلعق دمه صامتاً وان الضعيف سيسلّم بضعفه؟ وهل تقبل امة على وجه الارض تؤمن بالله وبرسله ان تسكت عن حقها او تتنازل عنه؟ من ظن ذلك فهو واهم.. واهم... واهم».

وهذا الكلام كان عن شارون وما يفعله، انما من اجل ان يسمعه الآخرون وبالذات اولئك الذين لا تهز وجدانهم وضمائرهم الافعال الشارونية التي فاقت حد التصور والتحمل. بل اننا عندما سمعنا كلام الامير عبد الله في حينه تساءلنا: لو أننا استبدلنا كلمة شارون بأسماء آخرين ألن يبقى المعنى والمقصد على حالهما؟

بعد المحطة السورية ازداد الحكم السوري بقيادته الجديدة اطمئناناً، وزاده الاطمئنان اصراراً وثباتاً على مواصلة المواجهة السياسية التي اعتمدها الرئيس بشار، وكان تركيزه فيها واضحاً على ظاهرة عنصرية المجتمع الاسرائيلي، وكيف انه يرتضي حاكماً مثل شارون تشير الاساليب التي يمارسها الى انه يدفع بامكانية السلام المتواضعة الى الهاوية. ومما زاد في الصمود والاصرار لدى الرئيس بشار هو أن الامير عبد الله سجل موقفاً في منتهى الاهمية ينسجم مع محطات التنبيه السعودي التي نعالجها في هذا المقال. وتمثّل الموقف في عدم تلبية ولي العهد دعوة رسمية من الرئيس جورج بوش الابن لزيارة واشنطن. وجاء ذلك في صيغة عدم الرد على الرسالة، الامر الذي يعني في مثل هذه الحالات ان الامير في ذلك ليس رافضاً الدعوة وليس قابلاً ومتلهفاً لها، وانما هنالك امور تستوجب التوضيح من جانب الصديق الاميركي. ومتى حدث ذلك تصبح الزيارة ممكنة.

وما حدث هو أن الادارة الاميركية قرأت هذا النوع من الرد الخشن على دعواتها وبدأت تعمل في الاتجاه الذي يطمئن الاصدقاء العرب، لكن التباطؤ كان غالباً والشارونية كانت راصدة و«تنظيم القاعدة» كان مقتحماً، فاختلطت الامور وضاعت فرصة اختبار لا بد منها لنوايا الصديق الاميركي الذي انشغل بحرب غير مفهومة، رافضاً ان يميز بين الحق والباطل، وبين الارهاب البغيض والمقاومة المشروعة، وبين التراث والتعصب. وكان ارييل شارون المستفيد من هذا كله وإلى درجة انه نجح في توظيف بعض فصول الحرب الاميركية على الارهاب لمصلحة اغراضه الشريرة. وكاد ينجح في استكمال التوظيف لولا ان الادارة التي يترأسها جورج بوش الابن تنبهت متأخرة جداً الى الأمر، وطرحت برسم التداول «الرؤية الجمهورية» للدولة الفلسطينية المتفق اصلاً على قيامها، بل وحتى على موعد القيام. ولو أن «الادارة الديمقراطية» لم تتصرف بالخبث الذي تصرفت فيه، والرئيس ياسر عرفات لم يبالغ في استجابته لمسألة التأجيل، لكانت الدولة الآن قائمة.

في ضوء ذلك وخشية ان يبلغ التكاسل اشده في الادارة الاميركية لكثرة محاصرة العناصر المتصهينة فيها للرئيس جورج بوش الابن، وهو تكاسل استفاد منه شارون الذي وصل به الاستهتار الى انه يعامل رئيس السلطة الوطنية ياسر عرفات باسلوب مهين له ولشعبه ولقضيته ولأمته ولكل الحكومات العربية، فاجأ الامير عبد الله الجميع بالكلام الذي هو محور المحطة الثانية لمسيرة التنبيه السعودي. ومن منبر القمة الخليجية في مسقط يوم الاحد 30 ديسمبر (كانون الاول) 2001 جاء كلام الامير عبد الله يوقظ وينبه ويطمئن. وجاء كلامه يضع النقاط على الحروف ويترجم مشاعر الرأي العام العربي وما يدور في خاطر كل مواطن في هذه الأمة من تساؤلات. بل إن ولي العهد السعودي بدا في كلمته متحدثا بلسان كل مواطن من المحيط الى الخليج. ولعل اكثر ما استوقف المواطن العربي في كلمة الامير هو نقده للذات السياسية العربية، وفي العبارة التالية، التي وردت في كلمة الامير عبد الله تأكيد على هذا النقد للذات: «ان الفرصة لم تفت من ايدينا بعد ولا يزال بوسعنا ان نشخِّص الداء ونتلمس الدواء. والداء الذي لا اظننا نختلف على طبيعته هو الفرقة القاتلة التي ابعدت الجار عن جاره ونفّرت الشقيق من شقيقه. ان وقتنا اثمن من ان نضيعه في استجداء الدول والمنظمات الدولية واستعطافها، وقد فعلنا ذلك عبر عقود طويلة من الزمن بلا جدوى، وجهدنا اثمن من ان نهدره في شجب واستنكار. وقد قمنا بهذا عبر عقود طويلة بلا فائدة. ان وقتنا كله يجب ان يكرَّس لمحاسبة النفس العربية والاسلامية على التقصير وحثها على عدم تكرار الخطأ، وإن جهدنا كله يجب ان ينصب على اصلاح البيت العربي والاسلامي وجعله قادراً على مواجهة التحديات...».

ورفع الامير من وتيرة النقد الذاتي وبهدف ان يحقق التنبيه مبتغاه قائلاً: «أحسبنا لا نتجاوز الحقيقة اذا اعترفنا اننا جميعاً، ولا استثني احداً، اخطأنا في حق امتنا الكبرى حين سمحنا لعلاقتنا العربية والاسلامية ان تكون قائمة على الشك وسوء الظن بدلاً من المفاتحة والمصارحة، وحين نشدنا العون من الغريب ونسينا القريب، وحين فتحنا بيوتنا واسواقنا لمنتجات الآخرين وسددناها امام المنتجات العربية والاسلامية، وحين أجزنا لأنفسنا ان نعزو كل نكسة من نكساتنا الى مؤامرة تجيء من وراء الحدود وإلى استعمار لا يزال يسكن العقول...».

وما هو الحل؟

نسمع الامير عبد الله يقول من المنبر الخليجي لكل ابناء الامة من المحيط الى الخليج: «اننا لسنا في حاجة الى قمم طارئة تصدر عنها قرارات انفعالية ارتجالية تموت قبل ان يجف الحبر الذي كُتبت به، فحاجتنا الحقيقية هي الى قمم للتأمل والتحليل تصدر عنها قرارات منطقية وواقعية تنفَّذ وفق جداول زمنية معقولة...».

هل هنالك افضل من القمة الدورية العادية التي نحن على موعد مع انعقادها اواخر مارس (آذار) المقبل في بيروت لكي يترجم القادة العرب، على الورق وفي صيغة قرارات واقعية ومخلصة، ما سمعنا ولي العهد السعودي يدعو اليه؟

وهل تكون قمة بيروت، نجَّاها الله من مكيدة التأجيل، تتويجاً لمسيرة التنبيه السعودي؟

لعل وعسى يحدث ذلك. ومن الآن وحتى ذلك الانعقاد نتمنى ان يسحب الرئيس نبيه بري (رئيس مجلس النواب في لبنان) رأيه «الشخصي والعام» في شأن تأجيل القمة، مع ان مجرد التفكير بالتأجيل معناه ان لبنان يرفض استضافة القادة العرب. ومن كان الاكثر احتياجاً الى هذه القمة لا «يبشّر» بتأجيلها. كذلك نتمنى ان يبدأ القادة العرب، بعدما قص ولي العهد السعودي شريط الافتتاح لـ «عملية النقد الذاتي»، ممارسة بعض النقد الذاتي ولو بينهم وبين انفسهم، او على طريقة الامير عبد الله بن عبد العزيز الذي ابتكر امثولة في نقد الذات وعلى الملأ وبالصوت العالي. ومن يدري، فقد يجترح اولو الأمر، بهذا النقد الذاتي، المعجزة ويجدون انفسهم وقد باتوا اكثر ثقة بالنفس وبالقدرات، وبذلك تستقيم الاحوال... وتكون مسيرة التنبيه السعودي حققت امراً تفتقده الأمة العربية وتبدو في اشد الحاجة اليه.