بوش الأب رئيس أمريكا

TT

يتردد في الاوساط السياسية بواشنطون ان الرئيس الفعلي للولايات المتحدة الامريكية جورج بوش الأب، من خلال ابنه الذي اتخذ منه مستشارا شخصيا، في ادارة شؤون البلاد الصغيرة والكبيرة بالداخل والخارج، حتى اصبح الرئيس المنتخب جورج بوش الابن لا يقطع في امر إلا اذا وافق عليه ابوه، الذي عاد تحت مظلة ابنه الى المكتب البيضاوي في البيت الابيض بعد خروجه منه قبل تسع سنوات.

يدور جدل في داخل امريكا حول شرعية وصول الرئيس الاسبق الواحد والاربعين الى السلطة من خلال الرئيس الحالي الثالث والاربعين، الذي فتح ابواب البيت الابيض الخلفية لابيه ليمارس معه السلطة والحكم، ليس بالنصح الاستشاري، وانما بالرأي الملزم على اتخاذ القرارات، وادى هذا الجدل الى انشطار الموقف السياسي بين المؤيدين لهذا المسلك السياسي استنادا الى الحق المطلق للرئيس الامريكي في اختيار مستشاريه وفقا لاحكام الدستور، والمعارضين لهذا المسلك السياسي ارتكازا على السلطة وما يترتب عليها من مسؤولية، باعتبارها قضية كلية غير قابلة للتجزئة بموجب احكام الدستور، حتى وان كان الواقع العملي القائم يؤكد اقتسامها بين الاب البعيد عنها والابن المتمتع بها، لان الابن لا يستطيع ان يتنازل لابيه عن كل او بعض سلطاته، ولان الاب لا يحق له الحصول على كل او بعض سلطات ابنه فتلك قضية يحكمها الدستور على قواعد تحرم على الرئيس المنتخب التنازل عن سلطاته.

احتدام الجدل بين الفريقين فرض الطلب من فقهاء القانون الدستوري في امريكا الادلاء برأيهم في هذه المعضلة القانونية لان الفريقين المختلفين حول شرعية اتخاذ الابن جورج بوش أباه مستشارا له، عنده من الحجج القانونية التي تثبت وجاهة رأيه وتوصل رجال القانون الدستوري الى رأي اجتهادي لصمت احكام الدستور عن معالجة هذه الظاهرة الفريدة من نوعها، ولا توجد لها سوابق مماثلة في كل دساتير العالم، حيث لم يتوقع حدوثها احد من فقهاء القانون الدستوري في امريكا او في غيرها من الدول عند صياغة احكام الدساتير.

يقول الرأي الدستوري الاجتهادي ان الاصل في الاحكام الواردة في الدستور الامريكي بأن السلطة خاصة بالرئيس المنتخب لا ينازعه فيها احد، ويتحمل وحده في مقابلها المسؤولية المترتبة عليها، ولكن يحق للرئيس اختيار العديد من المستشارين والاعوان بما فيهم الوزراء الذين يسمى كل منهم «سكرتير» الحقيبة الوزارية التي تعطى له لانهم كلهم يمارسون اختصاصاتهم الوظيفية بالنيابة عن الرئيس، ويتحمل كل واحد منهم المسؤولية امامه بما يتفق مع حجم السلطة الممنوحة له.

هذا الوعاء الدستوري القائم على اساس ان السلطة كلها للرئيس المنتخب يتطلب الوضوح في التكليف بالمهام المختلفة عن طريق التعيين الرسمي المعلن لكل الوزراء والمستشارين والاعوان الاداريين لان الشرعية الدستورية تتطلب ذلك لايضاح حجم السلطة وما يقابلها من مسؤولية امام الامة التي انتخبت الرئيس للحكم وامام الكونجرس ومجلس النواب باعتبارهما ممثلين للامة في المنظومة السياسية الامريكية، فلا مجال لاختيار الرئيس جورج بوش لابيه مستشارا شخصيا بدون تعيين رسمي له. لا يوجد في النصوص الدستورية الامريكية ما يمنع تعيين رئيس سابق لامريكا مستشارا عند رئيس لاحق عليه، ولكن ليس من السهل تنفيذ ذلك على الواقع العملي، لان هذا التعيين يتطلب القيام بمسؤوليات مكتبية يصعب القبول بها من الرئيس السابق، او ان يهضم ضمير الامة الامريكية رؤية رؤسائها السابقين يشغلون وظائف مكتبية تتدنى كثيرا عن المستوى المكتبي الذي كانوا يقومون به في زمن رئاستهم، خصوصا أن كل رؤساء امريكا الاحياء والاموات يمثلون رموزا وطنية عند الامة، لذلك تتحمل الخزينة الامريكية الصرف السخي على الرؤساء السابقين للولايات المتحدة الامريكية مدى حياتهم لرفع العوز عنهم الذي يدفعهم الى البحث عن العمل.

هذا المنطق القانوني الدستوري دفع المعارضين لقيام الاب جورج بوش بدور المستشار لابنه الرئيس الامريكي الى القول بأن طبيعة العلاقة الحميمة بين الرجلين الاب والابن ضاعت في ثناياها معالم السلطة والمسؤولية، واخذوا يتندرون بان بوش الاب اصبح الرئيس الامريكي بدون انتخابات بعد ان تنازل له ابنه عن سلطاته، وتزيد من مظاهر قوة الاب في السلطة اختياره شخصيا للرجال العاملين مع ابنه، فنائب الرئيس الحالي ريتشارد «ديك» تشيني كان وزيرا للدفاع في عهد الرئيس جورج بوش الاب، الذي جعل من رئيس الأركان في زمنه وزيرا للخارجية عند ابنه، والنظرة الشمولية لكل الرجال حول الرئيس جورج بوش الابن تثبت بان لهم صلات حميمة بابيه ويذهبون الى ان هذا الاختيار لأعوان الرئيس من قبل الاب الذي يمارس السلطة بالنيابة عن ابنه يفرض الريبة فيهما، ويتطلب البحث بصورة ملحة عن مخرج من ازدواجية السلطة والمسؤولية بين الاب والابن على قمة هرم الحكم في امريكا، ويستندون الى الرأي الدستوري الذي يحرم على الرئيس الامريكي اتخاذ مستشار له بدون تعيين معلن واضح وصريح في تحديد سلطات المستشار وينظم ما يقابلها من مسؤوليات.

يدافع المؤيدون عن لجوء الرئيس جورج بوش الى ابيه للحصول منه على النصح لتشابه الظروف الداخلية والاوضاع الدولية في عهديهما، على الرغم من الفارق الزمني بينهما الذي يقارب العشر سنوات. فكلاهما واجه في بداية عهده حملة تشكيك في قدراته على مواجهة المواقف الداخلية، وفي امكاناته على التعامل مع القضايا الدولية، وعبر عن هذه الحملة في الداخل الرأي العام الامريكي، وفي الخارج الرأي العام العالمي، وكان من الطبيعي والمنطقي ان يدعم الاب الرئيس الاسبق جورج بوش ابنه بعد اختياره رئيسا للولايات المتحدة الامريكية بالنصح المستند الى الحكمة التي فرضت اختيار الاقوياء الاشداء من رجال الاب. ليدعموا الرئيس جورج بوش الابن في السلطة والحكم وهذا يفسر السبب في ان كثيرا من مستشاري الابن ورجاله كانوا في الماضي مستشارين ورجالا ملتفين حول الاب ولا مجال للريبة التي يتحدث عنها خصوم الرئيس جورج بوش، لأن لا يمارس السلطة وليس هناك اي مظهر من مظاهر الازدواجية بها بين الابن وابيه الذي يقتصر دوره على تقديم النصح المستند الى الحكمة لابنه، وهو امر طبيعي يقوم به كل الاباء في كل مكان وعبر مراحل الزمان تجاه ابنائهم مهما علت مراكز الابناء، حتى وان كان رئيسا للولايات المتحدة الامريكية لانهم يظلون في حاجة الى نصح وحكمة آبائهم.

لا شك ان تشابه الاوضاع الدولية في عهدهما يفرض الصلة المتصلة بينهما حتى يستفيد الابن من تجربة الاب فلقد واجه في الماضي الرئيس جورج بوش الاب حرب الخليج الثانية في يناير عام 1991، ويواجه في الحاضر الرئيس جورج بوش الابن حرب الارهاب بافغانستان في اكتوبر عام 2001، وهذا التشابه في الازمات الدولية بعهديهما يفرض على الاب تقديم النصح المستند الى الحكمة والتجربة لابنه، وهذا ما فعله جورج بوش الاب في يوم 12 سبتمبر عام 2001 بعد كارثة العدوان على نيويورك وواشنطون بيوم واحد بتقديم النصيحة لابنه عبر مكالمة هاتفية معه بعد وصوله الى البيت الابيض وتقول كلمات هذه النصيحة «يا بني ان الحرب التي ستدخلها ضد الارهاب ستكون اصعب واطول من الحرب التي دخلتها في الخليج لاننا كنا نعرف في البيت الابيض عدونا واهدافنا على وجه الدقة، وانتم لا تعرفون اليوم من موقعكم في البيت الابيض عدوكم واهدافكم بالدقة المطلوبة لانتشار الارهاب في اكثر من مكان، واتخاذه اكثر من لون، وحذار ان تقاطع العالمين العربي والاسلامي بل اقترب منهما ليكونا عونا لك في محاربة الارهاب». كل هذا الجدل الدائر بين الفريقين، الذين يؤيدون تقديم الاب النصح والحكمة لابنه الرئيس الامريكي، والذين ينكرون على الرئيس جورج بوش اتخاذ ابيه مستشارا له، لم يلغ المشكلة القائمة لحدة الصراع بينهما الذي فرض تصاعد رأي من داخل امريكا يقول بان الوطن يواجه حاليا فضيحة جديدة يمكن تسميتها بدون تردد «بوش جيت» تخفي مظاهرها واحتمالات نتائجها الحملة الاعلامية الشرسة التي تقودها الصهيونية العالمية ضد العروبة والاسلام بعد ان الصقت بهما بالباطل سمات الارهاب الدولي.

يبدو ان المجلة الفرنسية «لوفيجارو» تحاول صب الزيت على النار المشتعلة في امريكا، بقولها ان الرئيس جورج بوش الابن يستقبل يوميا بصورة منتظمة في مكتبه البيضاوي بالبيت الابيض اباه الرئيس الاسبق جورج بوش الاب ليتشاورا منفردين في كل شيء من امور الحكم بالداخل والعلاقات الدولية مع الخارج، وهذا ما يجعله يطلب من مستشاريه الرسميين مغادرة المكتب البيضاوي عند دخول ابيه بحجة الصلاة معا منفردين واصبح من الصعب معرفة ايهما الرئيس الامريكي.