أشرقت شمس اليورو (الوحدة الاقتصادية الأوربية من الحلم إلى الحقيقة)

TT

حلم (عباس بن فرناس) و(ليلينتال) بالطيران فدقت عنق كل منهما، وحلم هتلر بالرايخ الثالث يدوم لمدة ألف سنة فلم يحكم سوى 12 سنة ومات منتحراً في قبو الاستشارية، وحلم نابليون بأوربا موحدة فمات منفياً مسموماً في جزيرة سانت هيلينا. وحلم (فاسكو نونيز دي بالبوا) بالدورادو أرض الذهب وكان أول اوربي رأى المحيط الهادي بعد عبور باناما ولكنه انتهى برأس مقطوع في سلة. والفرق بين الحلم والحقيقة هو مثل المسافة بين الأرض والسماء ولكنها قابلة للتحقيق، واليوم يطير البشر، وتعلو ألمانيا سماء الاقتصاد وتتحد فرنسا في وحدة أوربية، واكتشف (فرانسيسكو بيزاو) (الدورادو) أرض الذهب حضارة الإنكا في البيرو. واشار الفيلسوف الالماني (ايمانويل كانت) في كتابه (نحو السلام الأبدي Zum ewigen Frieden)، إلى وحدة أوربية تتحقق عبر المصالح اكثر من الايديولوجيات والسياسة. واليوم تتحقق هذه النبوءة على يد نخبة من التكنوقراط الموهوبين والأدمغة النبيهة والعمل الشاق البطيء في ملحمة رائعة من تاريخ الإنسان الحديث، جديرة بالتوقف عندها وتأملها. أشرقت شمس (اليورو) على أرض تفيض لبنا وعسلا، بين ظهراني قوم يتمتعون بالسلام والرفاهية، طلقوا الحرب ثلاثاً في بينونة كبرى لا رجعة فيها. في عصبة من خمس عشرة دولة قوية. في جيب كل فرد منهم 57 الف مارك سنويا. في أرض لا نهاية لغاباتها وسحر جنانها، تعاونت فيها يد الإنسان مع الطبيعة فزادت جمالاً فوق جمالها. اذا حلقت بالطائرة فوق حقولها رأيت الإبداع الإنساني مرسوماً بريشة قسمت الأرض بخطوط هندسية رشيقة، فكله خضرة وروح وريحان. يحافظون على كل شجرة ويعطونها اسما وهوية خاصة بها، ويغرمون من يتلفها بحوادث الطرق. وكل شيء مصان من إنس وشجرة في مجتمع تحترم فيه الحياة، ويأمن فيها الطير على نفسه، ولا يخاف الحيوان عندهم من دهس السيارات الطائشة. يحترم الإنسان الآخر فإذا اصطدم به بغير قصد اعتذر، وان قصد العدوان لجم، وان شهر السلاح حجز مثل مرضى المصحات العقلية، والكل يسبح في بركة من الاحترام والأمان قبل الرفاهية والضمانات. ومن اعتدى قدم لمحكمة عادلة ولو كان من عتاة المجرمين. لا يكذبون، وعلى مواعيدهم يحافظون، وبعهدهم لا ينكثون، استغرقهم العمل نهارا فإذا آووا الى بيوتهم صمتوا ففرغت الطرقات وهدأت البنايات فلا تسمع الا همسا، وينتظرهم في الغد يوم مملوء بالنشاط والانتاج فلا يسهرون، واعظم الذنوب عندهم الكسل. فعلى قوم من هذا الطراز نزلت الوحدة الاوربية، وليس على ظهر قوم كسالى يتسكعون كالتماسيح على شواطئ نهر الأمازون، أو امضوا حياتهم بالشعارات المفرغة من المعنى يهتفون. حولوا دنياهم الى جنة ارضية لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، غير مهدد احدهم ان يهبط منها فيكون بعضهم لبعض عدواً او ان يسرح من وظيفته لخلاف في وجهات النظر، او عدم الرضوخ لارادة الزعيم او الانتساب للحزب. يتمتعون بالضمانات الاجتماعية فإذا عجز احدهم عن العمل او داهمه المرض وركبته الشيخوخة اخذ من مصلحة حكومية ما يعينه على شظف العيش في خريف العمر. واذا مرض عولج في مشفى راق يقدم الخدمات مجاناً. يعلوهم السحاب ويظللهم الندى والضباب. جادون في عملهم، متقنون حرفتهم، في حياة حافلة بالانتاج، يتقدم احدهم في السلم الوظيفي طبقاً عن طبق حسب الكفاءة والجهد والاقدمية، وليس الثقة الحزبية والبطاقة الامنية او الوصولية بدون وصول والتسلق بدون اقدام. ويأخذ الانسان مركزه في المجتمع من العمل، اكثر من كونه مدعوماً، فالعمل قيمة مركزية ونعم اجر العاملين. يقود احدهم سيارته هونا، محترماً اشارات المرور، ويحافظ عليها نظيفة بدون صدمات ولو مرت عليها السنوات، فابن الحضارة يهتم بالصيانة مثل الانتاج والتطوير، فهي ثلاث حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض. واذا زمر احد للآخر في الطريق اعتبرت اهانة. (فعدم تلويث البيئة) يدخل فيه السمع والبصر كل اولئك كان عنه مسؤولا. فلا ترفع الموسيقى واشباهها مئات الديسبل بما يقترب من ثقب غشاء الطبل. وكل ما حول الإنسان نظيف ولو كان دورة مياه عامة في الطريق السريع، ومؤشر حضارة شعب هي من دورات مياهه، ونحن بقدر حرص الاسلام على النظافة وامتلاء كتب الفقه بتعاليم الطهارة، بقدر قذارة مرافقنا العامة في مرض لا فكاك منه ولا خلاص! عندهم قوت يومهم آمنين على انفسهم لا يخافون من اعتقال المخابرات وسطوة الحاكم وتقارير المخبرين وغياب الفرص وظلام المستقبل، اذا اخرج يده لم يكد يراها.

ان تقدم احدهم لدائرة حكومية قوبل بالابتسامة والاحتفاء وليس العبوس والاهمال، فلا يعرف معاملته في أي درج استقرت وتحت رحمة أي موظف رست. ينهي معاملته بكرامة بدون تدافع بالأكواع وفي الوقت المحدد دون ضياع في مربع الزمن والفوضى أو أن ينسى. يروي (ابن خلدون) في (المقدمة) عن (ابن بطوطة) الرحالة المغربي ان الناس كانوا يتهمونه بالكذب حينما روى مشاهداته عن ملوك الهند أن احدهم كان يلقي بالذهب على الناس مثلما يفعل احدنا بمعوله في التراب. فيعلق ابن خلدون على ذلك أن الناس لم تعتد رؤية مثل هذا. وان معيار الصدق والكذب ليس العادة، بل مقاييس تاريخية بتحكيم «أمور السياسة وطبائع العمران والاحوال في اجتماع الناس». واليوم لا يكاد يصدق احدنا ولادة (اليورو) بين شعوب اكلتها النزاعات، وفرقتها اللغات، ومزقتها المذاهب والاديان، وخاضت حروباً أهلية وقومية ودينية وعالمية، ولكنها تتحد اليوم على كلمة (السواء) بدون مدفعية نابليون أو دبابات هتلر أو سيف شارلمان. ويضم البرلمان الأوربي الذي ينتخب مباشرة من الشعوب 626 مقعداً موزعة على خمس عشرة دولة تمتد من القطب الشمالي، حيث تغيب الشمس ستة اشهر من أفق السويد حتى اليونان واسبانيا، حيث المياه الدافئة وحقول الزيتون، وحسب عدد السكان، فأعلاها المانيا التي تحتل 99 مقعداً وتليها بريطانيا وايطاليا وفرنسا بـ 87 مقعداً وفي المنتصف اليونان بـ 25 مقعدا والسويد 22 وأقلها لوكسمبرغ بستة مقاعد. وتملك اكثر من ثلث الثروة العالمية بما تصعق له نفس ابن بطوطة الذي رأى الملك الهندي وهو ينثر الدنانير فوق رؤوس الناس. فقد وصلت الى البنوك المحلية دفعة 15 مليار ورقة نقدية من عملة اليورو اذا صفت بجنب بعضها البعض وصلت الى سطح القمر خمس مرات، وأما صرر القطع المعدنية فبلغت 52 مليارا ينوء بحملها عشرة الاف عربة قطار. واليوم تبلغ ميزانية الاتحاد الاوربي السنوية 6394 مليار يورو يملك اكثرها الألمان ( 2023 ملياراً) وأقلها لوكسمبرغ (19 مليارا )بما هو أكثر من ميزانية دولة نفطية. ويبلغ دخل الفرد السنوي ما يزيد عن 27 الف يورو بعرق الجبين، وبعدد سكان يصل الى 372.6 مليون نسمة يقطنون ارضاً تفيض حليبا وزبدة، ترسل السماء عليهم المطر مدرارا، تجري من تحتهم الأنهار. بمساحة تبلغ 3.19 مليون كيلومتر مربع، يرطنون بعشرات اللغات ومئات اللهجات، مما يذكر ببابل القديمة بدون ان يبلبل الله السنتهم، بل توحدت اهدافهم ومصالحهم. ولكن هذه الظاهرة الكونية تحتاج اكثر من التوصيف الى التفكيك فكيف حصل ما حصل؟ وكيف بنوا هذا الصرح الممرد من قوارير؟ اننا نتعلم من القرآن مبدأ هاماً هو السير في الأرض لمعرفة (خلق الأشياء) «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» ولمعرفة كيف خلقت (ظاهرة الوحدة الأوربية) لا بد من قراءة التاريخ. اننا نرى خلال الفترة الممتدة من عام 1950 حتى 2002 انهم تقدموا تدريجياً نحو القوة والوحدة، أما نحن في الشرق فلم نزد الا تبارا. ولم يربح العالم العربي الا حروبا ونزاعات واستبدادا. في الوقت الذي يحتفل الأوربيون مع مطلع العام، فتخرج امرأة سرابيلها من ورق النقد الثمين اليورو. فكيف حصل ما حصل؟ وكيف وصلت اوربا الى ما وصلت اليه؟ ومن اين جاءت الفكرة؟ وكيف تطورت؟ ومن هم آباؤها الفعليون الذين مهدوا الطريق لولادة هذا الكائن العجيب بخمسة عشر رأسا ومائة عين مثل آرغوس الكائن الخرافي من الأساطير اليونانية، وما زال غير قابل للتشكل حتى اليوم، ويصعب تعريفه هل هو عصبة دول او اتحاد فيدرالي ام ماذا؟ انه حتى الأوربيون يعجزون عن تعريف هذا الكائن الجديد، ولكن كما نعرف ان الكائن حينما يولد لا يحمل اسما وبعد الولادة يعطيه والداه الاسم، ثم ينمو خلقا بعد خلق.

في عام 1922 نشرت مقالة بعنوان (أوربا واحدة Paneuropa) لشاب مغمور يبلغ من العمر 28 عاماً هو (ريشارد جراف كاودن هوف كاليرجي ـ 1894 ـ 1972 Graf Coudenhove Kalergi) فكان الاوربي الأول الذي خرقت رؤيته سجف الغيب ليحلم بالمستحيل، واليوم بعد مرور 80 عاماً تتحقق نبوءته ويولد اليورو في الأول من يناير عام 2002.

انطلق كاليرجي بعد الحرب العظمى من مفهوم راسخ ووعي متألق أن اوروبا هي بين خيارين، فإما ذاقت مرارة الحرب الضروس او اتحدت فنجت من المذبحة العارمة. إما الوحدة او الحرب العالمية. وصدق الرجل وكذبت اوربا. فقد راهن السياسيون على الحرب وخرجت اوربا من الانقاض بخسارة اكثر من خمسين مليون ضحية بدون مبرر. ان الانسان لظلوم كفار.

هذا الرجل ولد في طوكيو من رحم امرأة يابانية من عائلة الساموراي، وينتسب والده لعائلة عريقة في كريتا، ونشأ في النمسا، واستقر في فرنسا، واخذ الجنسية التشيكية، وهرب في النهاية من هتلر الى سويسرا ومن ثم الى أمريكا ليصبح استاذاً للتاريخ هناك، ويصفه (توماس مان) الكاتب المشهور انه كان غريب الاطوار جمع بين صفة الكاتب اللامع والمتنبئ العجيب والفيلسوف العميق والصناعي البارع والسياسي المحنك. وفوق هذا كان بهي الطلعة جميل الصورة. وفي عام 1946 وقف تشرشل يتكلم في خطبة حماسية ويدعو الى انشاء (الولايات المتحدة الاوربية). وعرف لاحقا ان هذه الكلمة التي القاها كانت بالتعاون مع رجل من امريكا يعمل استاذاً لمادة التاريخ ويعمل على مشروع دستور اوروبي ويعد لمؤتمر يخرج منه أول مجلس أوربي. هذا الرجل كان (جراف كاودن هوف كاليرجي) الذي عاش ورأى أول ولادة لأفكاره في ولادة المشروع الاوربي عام 1951 باتفاقية (وحدة المونتان Montan union) في الحديد والصلب بين ست دول اوربية كانت البذرة في ولادة السوق الاوربية المشتركة وتشكل اوربا صغيرة في رحم التاريخ. ولكن (كاليرجي) مات عام 1972 ولم تكتحل عيناه برؤية التطور المذهل الذي اعقب الخطوة الأولى التي كانت مصدر تخوف الكثيرين ان تكون خطوة فاشلة في الاتجاه الخطأ. وتجربة الوحدة العربية سبقت تجربة الوحدة الأوربية فضاعت في صحراء الشعارات والايديولوجيات ومغامرات الغدر العسكري. ولذا وجب وضع هذه التجربة تحت المجهر التاريخي بالدراسة المتأملة الصبورة، كيف بدأ خلقها وكيف تطورت حتى ولد اليورو؟ والى اين تمضي هذه الوحدة بعد ان ضمت 15 بلدا وتدرس عضوية خمس دول جديدة هي هنغاريا وبولندا واستونيا والتشيك وسلوفانيا فضلا عن قبرص. ومن العجيب ان دولاً اسلامية مثل المغرب وتركيا تتمنى الدخول في هذا الاتحاد فترفض وتشترط اوربا على تركيا ان تعدل قوانين الاعدام فيها فلا تشنق اوجلان الزعيم الكردي، بحيث يولد التاريخ مقلوبا، فبعد ان كانت الفتوحات الاسلامية تغزو ارض الفرنجة، فإن الفرنجة يغزوننا بدون سلاح وجنود ونقول هلم خذونا فيأبون. ان في ذلك لآية وما كان اكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز الرحيم.

[email protected]