وأخيرا جاء دور السمعي البصري

TT

انتقل الكلام عن تحرير السمعي البصري في المغرب، من الخطاب إلى الانجاز. فقد بدأت لجنة حكومية تدرس أربعة نصوص تتعلق بتنظيم الإعلام السمعي البصري، وذلك في نفس الأسبوع الذي حسمت فيه الحكومة شأن موضوع تعديل القانون المنظم للاتصالات.

بخصوص النقطة الثانية، وهي من المحاور الأساسية في عمل الحكومة، كان هناك ارتباك ساد بضعة أسابيع، في الداخل والخارج، حول طبيعة التعديل الذي كان مقررا إدخاله على القانون المشار إليه، إذ أن البعض تكهن بأن التعديل ربما يكون محاولة لاسترجاع الإدارة، للاختصاصات التي أعطاها المشرع للوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات. وكان الدور التحكيمي في ما بين الفاعلين في ميدان الاتصالات، الذي أناطه المشرع بهذا الجهاز، مثالا وسابقة في العالم الثالث، ومن المؤشرات الواضحة الدلالة، على رغبة المغرب في التحرير التام لهذا القطاع، والاندماج في الاقتصاد العالمي، مع قبول كل قواعد اللعبة الليبرالية. وبسبب مصداقية هذا الجهاز حققت صفقة الخط الثاني، وإلى حد ما عملية فتح رأسمال شركة اتصالات المغرب، رقما قياسيا عالميا.

وتبين بعد مصادقة الحكومة على التعديلات التي أدخلت على قانون 1996، أن تلك التعديلات تؤكد الاستمرار في روح قانون 1996، لأن المغرب يريد أن يستمر في استثمار فوائد التوفر على أداة تحكيم مستقلة، وفي مواصلة «تحرير القطاع مع التحكم في مساره» كما ورد في البرنامج الذي عرضته الحكومة الحالية لدى تنصيبها أمام البرلمان في أبريل (نيسان) .1998 وهكذا فإن المغرب قد أقدم على تعديل قانون الاتصالات، وهو يتعامل مع الجيل الثاني من مشاكل التحرير، إذ تبين أن الغرض من التعديل كان هو التدقيق في الشروط، وتحسين الممارسة، لكن بنفس الروح التي اقتحم بها هذا الملف منذ خمس سنوات. وأصبح الطريق سالكا الآن لفتح ملف تحرير الهاتف الثابت، في ظروف تحفها المصداقية عالميا، وتسمح باستثمار كل مزايا التحرير من حيث الخدمات والأسعار، وبالتالي تسمح باقتحام مجتمع الإعلام والمعرفة، للانخراط في الحداثة. وبعد تدشين تيكنوبارك في الدار البيضاء، وهو فضاء مفتوح لنشاط حوالي مائة شركة تعمل في قطاع التنكولوجيات الحديثة للاعلام والاتصال، يجري التحضير لفضاء مماثل في بوزنيقة، من أجل المزيد من توفير الأدوات التقنية والمالية لفائدة اقتصاد وطني مندمج في فلك الاقتصاد العالمي.

وكل هذا يدعم مركز المغرب، كشريك اقتصادي تكنولوجي، في كامل الملاءمة مع ما هو معمول به عالميا، ويؤهله لربح التحديات التي يطرحها مجتمع الاعلام والمعرفة.

بموازاة هذه الخطوات التي تؤكد مسيرة لا رجعة فيها، يأتي الإقدام على مسلسل تحرير قطاع الاعلام السمعي البصري، كقرار سياسي هو خطوة في نفس الطريق، وذلك بالتخلي عن احتكار الدولة لهذا القطاع، وبتنظيمه على أسس تتناغم مع الحداثة، أي في نطاق حرية الإبداع، والتنافسية، وتقنيات متقدمة للضبط والتحكيم، على غرار ما تم في قطاع الاتصالات، وما تم تأكيده الآن، عبر تعديل القانون المعمول به منذ .1996 وتهدف النصوص التي تنهمك عليها الحكومة حاليا، حسب ما تضمنته الرسالة التوجيهية للوزير الأول، لعمل الحكومة في سنة 2002، أي آخر سنة من عمل هذه الولاية البرلمانية، إلى «حصر دور السلطات العمومية، في الوظائف الأساسية للضبط والتنظيم وتحديد الاستراتيجيات». وهذه خطوة سياسية هامة، تعتبر منعطفا في مسيرة المغرب، نحو مزيد من الحداثة.

وهذا الكلام العام، يتبلور في أربعة نصوص كما قلنا، أولها قانون إطار ينظم شروط وكيفيات ممارسة حرية الاتصال السمعي البصري، ويكرس رفع الصبغة الاحتكارية عن هذا القطاع، وإعادة هيكلته القانونية، ويرعى عبر مواكبة يومية، احترام مقاييس التعددية السياسية والثقافية، ويحد من الاحتكار في رأس مال الشركات التي يمكن ان تنشأ، ويجعل التنافسية مضمونة كما هي مكرسة في القوانين التجارية المعمول بها. وهناك قانون آخر يرمي إلى إنشاء مجلس أعلى للسمعي البصري، يتولى الكثير من الاختصاصات التي كانت تتولاها وزارة الاتصال، بل ويشرف على تطبيق طقوس جديدة سيتطعم بها مناخنا السياسي والثقافي. وهذا المجلس يتكامل مع الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات، في منح الرخص، بناء على عروض تطرح على العموم بشفافية، مثل ما حدث في قطاع الاتصالات، وجلب للمغرب كل المزايا التي أجمع الكل على التنويه بها. ويسهر المجلس الأعلى على حسن تطبيق الاتفاقيات المبرمة مع الفاعلين في القطاع، الذين يلتزمون بتقديم خدمات عمومية للجمهور وفق ضوابط مضمنة في القانون، مع صيانة الثقافة الوطنية، واحترام القيم السائدة في المجتمع، وخاصة ما يمس الاعلانات التي ستصبح الممول الرئيسي لقطاع الاعلام.

وأما النص الثالث فهو يرمي إلى تحويل كل من الاذاعة والتلفزيون العموميين إلى شركتين وطنيتين، وإلى جانبهما شركة وطنية أخرى تتولى البث عبر الأثير، لفائدة كل الفاعلين في القطاع.

بينما يرمي النص الرابع إلى تحويل وكالة المغرب العربي للأنباء بدورها إلى شركة وطنية، تعقد اتفاق شراكة مع الدولة، مع هياكل وضوابط قانونية وإدارية، تحررها من الانضباط مع قواعد المالية العمومية، وتضمن استقلالها التحريري. إن هذه النصوص من شأنها أن تساهم بشكل فعال، في اتساع فضاء الحريات العامة وإشاعة القيم التي تنبني عليها الديموقراطيات الحديثة. وهي تعبير عن ثقة المجتمع المغربي بنفسه، ووصول الممارسة السياسية والثقافية إلى درجة من التطور والنضج، بعد عقد من الزمان، قطعه ما يعرف في المغرب بالمسلسل الديموقراطي، أعطاهما الملك الحالي دفعة قوية من خلال طرح شعار «المفهموم الجديد للسلطة».

وبطبيعة الحال فإن هذا الاطار القانوني، يجب أن يكتمل بميثاق وطني يتضمن «المفهوم الجديد للخدمة العمومية في مجال الاعلام»، لكي تكون الدواليب الجديدة التي سيسمح بها المناخ الجديد، بما فيها من دواليب تابعة للقطاع العام، وتلك التي سينشئها القطاع الخاص، موظفة في الارتقاء بالذوق العام، وضمان حصة معلومة للانتاج الوطني الثقافي والفني. ذلك أن الانفتاح والتنافسية، يجب ألا يؤديا إلى اشاعة الضحالة والسوقية باسم مشايعة رغبات الجمهور. إن الميثاق المشار إليه، أو أية آلية أخرى تخدم نفس الهدف، يجب أن يجنب الوقوع في فخ التجاوب شرطيا مع «قياس المشاهدة»، ويجب أن يخلق ضوابط يستهدي بها القطاع العام والخاص معا، وصولا، لا إلى تحقيق المردودية المادية وحدها، بل إلى توظيف حرية الإبداع والتنافسية في الارتقاء بالذوق العام، وخدمة الثقافة الوطنية بمجموع مكوناتها، وبالطبع بامتلاك الجمهور لحرية الاختيار.

إن كل هذا أصبح اليوم في متناول المجتمع المغربي، بفضل الاستقرار، والتوافق، واختيار الطريق الصحيح للتقدم ولمجابهة تحديات الحياة العصرية. بل إن هذا الاختيار سيمكن حتى من التغلب على معضلة التشغيل، حيث أن كل منصب شغل يحدث في الاعلام، يحرك في محيطه عشرة مناصب شغل. وهكذا فإن الإقدام في نفس الأسبوع على تعديل قانون الاتصالات، بما يكرس الحرية ومصداقية جهاز التحكيم، وعلى بدء دراسة النصوص المنظمة لتحرير قطاع السمعي البصري، تأكيد لمسيرة بدأت في 1996، في قطاع الاتصالات، ولاختيار رافق المسلسل الديموقراطي في قطاع الاعلام.

كان منتظرا أن يعلن الملك في أول خطاب لعيد العرش، في يوليو (تموز) 2000، عن هذا الإصلاح الذي انتقل الآن إلى حيز الإنجاز، واكتفى حينئذ بأن أعلن عن ملامحه، وبشر به، في انتظار أن تتهيأ الظروف التي نضجت الآن.

كان متوقعا، أثناء إعداد المسلسل الديموقراطي، أن يكون الاعلام السمعي البصري، بحكم جماهيريته، هو قاطرة التغيير. أي أن تقود آليات الاعلام المنفتح الديناميكي إلى تكريس الممارسة الديموقراطية في مجالي السياسة والثقافة. وقد تغير الترتيب الزمني ولكن لم تتغير رتبة اصلاح الإعلام السمعي البصري.

والخطوة التي يقدم عليها المغرب، في هذا الميدان، تنتمي إلى نفس الطبيعة التي أثمرت الجهوية، وقانون التنافسية، والمحاكم الإدارية، والمحاكم التجارية، والعديد من القواعد التي تكرس المزيد من الحرية، والمزيد من الانصهار في العصر. فقد طرأت سلسلة من التغييرات الهادئة، التي حدثت تباعا، طيلة العقد الماضي، وجعلت حياة المغاربة، تشهد انتقالا سلسا، إلى اللحظة الحالية التي يغمرها التفاؤل، وتأكيد شروط الالتفاف الوطني.