القيادة الفلسطينية ومفاتيح فك الحصار

TT

الشيء الذي يجمع المبعوث الأمريكي الراحل فيليب حبيب والمبعوث الحالي الجنرال الأمريكي المتقاعد انتوني زيني، أصولهما اللبنانية العربية. وما يجمعهما أيضاً دخول كل منهما على خط الحصار الفلسطيني، مرة في بيروت، والثانية في رام الله. فهل يكون انتوني زيني فيليب حبيب آخر بين عرفات وشارون، بعد أن كان الأخير صيف عام 1982 إبان حصار بيروت رجل الاتفاق بين عرفات والقيادة الفلسطينية في منظمة التحرير مع الجانب الإسرائيلي (مناحيم بيغن وشارون)؟.

سؤال يطرحه الزخم الذي رافق زيارة الجنرال زيني للمنطقة ولقاؤه مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات المحاصر ضمن بقعة ضيقة لا تتجاوز مساحتها نصف الكيلومتر المربع في قلب مدينة رام الله.

المرحلة تتقارب في الشكل وتختلف في التفاصيل، والوقائع تعيد نفسها بصورة مختلفة بعض الشيء. ففي حصار بيروت، الذي امتد أكثر من تسعين يوماً، قاتل عرفات ومعه جميع قوى وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية ولواءان من جيش التحرير الفلسطيني (قوات حطين، قوات القادسية)، فضلاً عن القوات السورية (اللواء 85)، وقوات الحركة الوطنية اللبنانية ضمن دائرة تزيد مساحتها على 10 كيلومترات مربعة تحشد داخلها أكثر من أربعين ألف مقاتل تحت السلاح، وعلى رأسهم جميع القيادات الميدانية والسياسية لعموم قوات الثورة الفلسطينية. وفي قلب هذا الحصار، صمدت القيادة الفلسطينية ومعها عموم القاعدة الفدائية أمام جهنم القصف البري والبحري والجوي الإسرائيلي، ووقعت العديد من المعارك التي تكبد فيها الإسرائيليون خسائر باهظة.

في حصار بيروت، شكلت القيادة الفلسطينية خلية عمل ائتلافية مشتركة، اتخذت جلّ قراراتها بالإجماع، وبعضها بالتشاور السريع، بما في ذلك مع قيادات خارج الحصار، خاصة القرارات ذات المضمون السياسي، والقرارات العسكرية على الأرض، مما أكسب عملية الصمود والمقاومة قدراً من التماسك، فتوازنت المعادلة بين (مقاومة ومفاوضات) بين (صمود وقرارات سياسية)، أفضت بمجموعها إلى وقف أي تقدم لقوات الاحتلال نحو بيروت الغربية، وإلى خروج مشرف لقوات الثورة الفلسطينية. وفي هذه القرارات وقع خلاف حول نقطتين:

الأولى وتمثلت في إصرار ياسر عرفات على مغادرة بيروت إلى أثينا ثم تونس، بالرغم من الرأي الجماعي بضرورة توجهه إلى دمشق أولا لأكثر من سبب، يقف على رأسها السبب المتعلق بوجود دور سوري على الأرض في القتال أثناء حصار بيروت، وبأهمية الموقع الجيوسياسي السوري بالنسبة للفلسطينيين.

النقطة الثانية وظهرت في الخلاف حول نشر القوات الفلسطينية في الدول العربية.

وبالعودة إلى صمود بيروت، فقد استطاعت القيادة الفلسطينية الائتلافية، بالوحدة الميدانية على الأرض وبوجود قوات عسكرية مدربة ومسلحة بالعتاد الصاروخي أن تتحرر من الضغط الناري الإسرائيلي وأن تتجاوزه، فانتقلت المعركة من ميدان الحصار العسكري إلى ميدان المشاريع السياسية بعد الخروج من بيروت حين أطلق الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مشروعه الشهير.

* الحصار الثاني

* أما حصار رام الله الراهن، فعدا عن كونه حصاراً إسرائيلياً محكوماً بالقوة الهائلة على طرف ضعيف، وفاقداً للقوة العسكرية الفعلية مقارنة بما كان عليه الوضع إبان حصار بيروت عام 1982، وفي ظل وضع عربي متآكل، فإن القيادة الفلسطينية تفتقد إلى عنصر الوحدة السياسية الائتلافية بين جميع مكوناتها وفصائلها، خاصة الرئيسية منها، لذلك فإن عوامل القوة الفلسطينية مبددة، متناثرة الأوراق، والقيادة الميدانية للانتفاضة لا تأثير لها على مواقع القرار السياسي، والخوف الفعلي أن تكون الانتفاضة ذاتها (ورقة فقط ورقة) للاستخدام التكتيكي من جانب سلطة القرار أو من جانب بعض المعارضة التي ترى بأن برنامجها يمر عبر نسف كل ما هو موجود.

طبعاً، الأمور ليست بهذه البساطة، فهي أعقد من أن تنسج مقارنة بين صمود عام 1982 وبين الصمود الحالي. نظراً للعوامل التي حكمت مرحلة مضت، والعوامل التي تحكم المرحلة الراهنة. إلا أن المقاربة ممكنة بين خطوط السياسات التي أدارت معركة 1982، وبين خطوط السياسات التي تديرها الآن في ظل الحصار المضروب على رام الله وعموم الأرض الفلسطينية. بين خطوط سياسات وحدوية بقرار ائتلافي لكل القوى على الأرض وبين قرار محصور بيد أفراد بعيدا عن القرار الجماعي. بين قوى مسلحة خاضت المعركة على الأرض بتناغم مع القرار السياسي والتفاوضي مع فيليب حبيب، وبين قوى الانتفاضة المغيبة عن سقف القرار السياسي في التفاوض مع انتوني زيني.

إن تجارب صمود بيروت عام 1982، وصمود الشعب الفلسطيني في وجه رياح الحروب الأهلية الداخلية أعوام (1983 ـ 1985)، فوق الأرض اللبنانية، وحروب المخيمات الظالمة التي شنت على التجمعات الفلسطينية وعلى عموم الحركة الوطنية الفلسطينية بين أعوام (1985 ـ 1987)، وحصار الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين من غزة إلى الضفة الفلسطينية وفي القلب منها رام الله، تجارب ثمينة وطازجة، وباستطاعة الشعب الفلسطيني أن يخرج من هذا الحصار والنفق الكبير بالصمود والمثابرة، وباشتقاق السياسات والتكتيكات الصائبة تحت إدارة قيادة جماعية موحدة تعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية ولمكانتها في رسم مسير ومصائر الشعب الفلسطيني.

لقد فشل فيليب حبيب في مهمته الأمريكية ـ الإسرائيلية، بشطب منظمة التحرير من المعادلة تحت نار الحصار في بيروت، وخرجت القوات الفلسطينية بسلاحها من الحصار لتعود إلى قلب الصراع مرة ثانية على جبهة البقاع والجنوب اللبناني ثم إلى قلب فلسطين.

وبالتالي لن تكون حظوظ انتوني زيني أفضل من فيليب حبيب في حال استمر الموقف الأمريكي على حاله من خلال الانحياز إلى سياسة شارون، وعدم اتخاذ سياسات تحمل مضموناً عادلاً.

وعلى هذا فإن نجاح مهمة انتوني زيني في زيارته الحالية وما يعقبها من زيارات لاحقة تتحدد بممارسة واشنطن ضغطاً على شارون لفك الحصار وسحب قواته، ووقف الممارسات الإسرائيلية العدوانية ضد المواطنين والكوادر الفلسطينية بما في ذلك الهجمات وعمليات الاغتيال الفاشية، ونشر مراقبين دوليين وتحقيق الحماية الدولية للشعب الفلسطيني طبقاً لإرادة المجتمع الدولي.

* كاتب فلسطيني ـ دمشق