السنوات الأخيرة للشيخ الوالد (4)

TT

رغم العقوق والنكران من «المؤسسة المشيخية» في الأزهر، والأوقاف.. إلخ، فإن الشيخ لم يعدم من يقدّره قدره، ومن يكتب على مظروف مجلة «المسلم»، التي ترسلها إليه العشيرة المحمدية «مولانا الجليل المبارك العارف باللّه سيدي الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا».

وكان الشيخ يستخدم في كتابته «الريشة» والمحبرة وأنواعاً مختلفة من «السن»، لكنه عند ظهور أقلام الحبر استخدم أنواعاً منها. وكانت أصابعه الطويلة الرشيقة تمضي هوناً على الورق، فتكتب بخط دقيق، لكنه واضح، وكان يكتب المتن بخط كبير نسبياً، وكان يرقمه ويشكله بالحبر الأحمر. أما الشرح، فكان يكتبه بخط دقيق للغاية، بحيث ان نصف الصفحة كان يستوعب أربعين سطراً لا يتخللها شطب واحد، ويمكن قراءته على دقته، كما كان في كثير من الحالات يملأ هوامش الصفحة أيضاً.

وكان الشيخ البنا أقرب إلى الطول منه إلى القصر، وإلى النحافة منه إلى البدانة، وإلى البياض منه إلى السمرة.. وكانت يداه طويلتين وأصابعه رشيقة، ناتئ الوجنتين، مقرون الحاجبين، واسع الشدقين، أشم الأنف، وكان يلبس الجبة والقفطان ويضع العمامة على عادة شيوخ مصر. وكانت صحة الشيخ بصفة عامة حسنة، ولا أذكر أنه زار طبيباً أو أن طبيباً زاره قبل مرضه الأخير.

وكان من عجيب أمر الشيخ أنه لم يزر طبيب عيون، وأنه كان يختار نظارته حسبما اتفق، ثم لا يتخلص منها إلا إذا أصابها عطب ليختار أخرى بالطريقة نفسها.

وإذا قدرنا الحياة الروتينية والحبسة في المكتب المقبض ليل نهار، والوحدة الكئيبة التي كان يعيش فيها، وعدم عنايته عناية خاصة بالغذاء، وما تعرض له من شدائد ومحن في الثلاثينات، ثم النكبة المدلهمة باغتيال ابنه المأمول، وما سحبته من آلام وهموم على بقية حياته، وإن هذا الحدث قد أصاب أسرته كلها بضربة قاضية أخرت تقدمها، نقول إذا قدرنا هذا كله لأدركنا أن الشيخ رحمه الله كان يدافع كل هذه القوى الهدامة الميئسة لكي يحقق أمله العظيم في إتمام «الفتح»، كان الفتح هو الذي يمسكه على قيد الحياة ويعطيه القوة التي استطاع أن يغالب بها عوامل كان يمكن أن تجعل غيره يتهاوى قبل الوقت الذي أسلم فيه الشيخ الروح.

وحتى الأيام الأخيرة من عمر الشيخ لم ييأس أو يتوقف عن العمل، وكان قد وصل إلى منتصف الجزء 22 وهو عن التاريخ، ولما أحس بهجوم المرض، حاول أن يعرفني بأسرار عمله، وقال إن الجزء 22 عن التاريخ. وإن شرحه لن يحتاج إلى فنية واستاذية كبيرة، ونصحني بالرجوع إلى البداية والنهاية لابن كثير لأن تاريخه يعتمد على الحديث، كما يتضمن التخريج، وهو محك الخبرة والاستاذية.