فيكتورهوجو.. الإنسان والشاعر والسياسي

TT

سيكون العام 2002 في فرنسا، عام فيكتور هوجو بلا منازع، فبمناسبة مرور قرنين على ميلاده، سوف تخصص له احتفالات ضخمة في العاصمة باريس وفي العديد من المدن الفرنسية الاخرى، وسوف يقام معرض للوحاته ورسومه، اذ انه كان بارعا في هذين المجالين، وسوف يعاد عرض مسرحياته الشهيرة. اما عن سيرته فقد صدر العديد من الكتب تتناول جوانب جديدة من مسيرته الطويلة الحافلة بالاحداث الكبيرة، وتنير، مجددا شخصية هذا العبقري الذي اخترق القرن التاسع عشر من اوله الى نهاياته، مجسدا طموحاته وآماله واحلامه، عاكسا عثراته وتقلباته وازماته وفواجعه، ممجدا التقدم الصناعي والتكنولوجي، مدافعا عن الجمهورية وقوانينها، مساندا المرأة في نضالها من اجل التحرر والمساواة مع الرجل، داعيا الى ضرورة تغيير برامج التعليم ومناهجه، منتقدا بشدة وعنف قوانين الاعدام والشنق، محرضا على انتهاج سياسة عادلة وانسانية تجاه المحرومين والمقهورين.

لذا يمكن القول ان فيكتور هوجو كان مثل كل العظماء متعدد المواهب والخصال والقدرات، فهو شاعر من طراز رفيع، وروائي بديع، وكاتب مسرحي مرموق، وفنان موهوب، ومجادل قوي الشكيمة والحجة، وسياسي مستنير لا يخشى المنفى او السجن اذا ما كان الامر يتعلق بضرورة الدفاع عن افكاره، انه الرجل «المحيط» كما يقول معرض الصور المخصص له في المكتبة العامة بباريس. وهو ايضا، كما قالت عنه السيدة كاترين توسكا، وزيرة الثقافة والاتصالات في حكومة ليونال جوسبان «الرجل الذي نتعرف من خلاله على القيم التي قامت عليها الجمهورية، ذلك ان المعارك والنضالات السياسية والاجتماعية التي خاضها خلال القرن التاسع عشر، وايضا التحديات الجمالية والفنية التي كان احد صانعيها الكبار، تعكس بالضرورة مغامرات عصرنا وتساؤلاته».

من سنوات مراهقته، كتب فيكتور هوجو، الذي ولد في مدينة بوزسون عام 1802 في يومياته يقول: «اريد ان اكون شاتو بريان او لا شيء!». في ما بعد سيقتدي به رامبو ويكتب هو ايضا: «اريد ان اكون فيكتور او لا شيء!» واذا ما كان الاول قد حقق ما كان يطمح له وازيد من ذلك فإن الثاني انصرف مبكرا عن مطمحه مفضلا تجارة التوابل والقهوة في اثيوبيا واليمن، غير ان القليل الذي تركه من الشعر، كان كفيلا بأن يضعه في المقام الاول، الى جانب فيكتور هوجو.

مطلع العام 1809 استقرت صوفي، والدة فيكتور هوجو، التي انفصلت عن زوجها، في باريس بصحبة ابنائها، وكان اهم حدث عاشه صاحب «البؤساء» وهو صبي، تلك الرحلة الرائعة التي قامت بها عائلته الى اسبانيا عام 1811، والتي تركت في نفسه خواطر لم ينسها ابدا، ولفترة طويلة سوف تظل ماثلة في ذهنه جبال البيريني المكسوة بالثلوج، ولوحات متحف «البرادو» والجنود الذين يلعبون الدومينو في قاعات قصر «ماسيرانو» الفسيحة، عند عودة العائلة الى باريس، يعيش الطفل فيكتور هوجو حدثا مأساويا هذه المرة، فقد تم اعدام لاهوري عشيق والدته بسبب مساهمته في محاولة انقلابية دبرها الجنرال ماليه ضد نابليون بونابرت.

* جائزة ملكية

* وبسبب الخصومات المتواصلة بين والدته ووالده، وُضع فيكتور هوجو في مبيت داخلي في باريس فتعلم اللغة اللاتينية بسرعة، واصبح قادرا على ان يترجم الى لغته كلام شعراء كبار من امثال هوراس وفيرجيل وناسيت وسيسرون، كما انه درس الرياضيات والهندسة والرسم، وفي المبيت الداخلي ايضا، مشجعا من طرف احد اساتذته، كتب فيكتور هوجو اولى نصوصه متمثلة في مسرحيتين: «جهنم على الارض» و «قصر الشيطان»، ورغم انه التحق بكلية الحقوق اثر حصوله على شهادة البكالوريا، فإن فيكتور هوجو ظل متعلقا بالادب تعلقا كبيرا، وقد احرز نصه الشعري حول موت الدوق بيري الذي اغتيل امام قصر «الاوبرا» يوم 13 فبراير (شباط) 1820 جائزة ملكية، ويقال ان شاتو بريان وصفه عند قراءته للنص المذكور بـ «الفتى العظيم».

بين العام 1819 و1821، اشرف فيكتور هوجو على رئاسة تحرير مجلة ادبية اختار لها اسم «الحافظ الادبي»، وفيها نشر العديد من النصوص التي تعكس افكاره السياسية المحافظة الموالية للنظام الملكي، وايضا نصوصا نقدية عن شعراء عصره من امثال اندريه شينييه ولامرتين، وفي هذه الفترة احب فتاة جميلة تدعى ادال، وكتب لها في اول ربيع العام 1820 يقول: «علينا ان نتزوج غدا، وسأقتل نفسي بعد غد، وسوف تكونين انت ارملتي، يوم من السعادة افضل من حياة مأساوية طويلة».

الآن بلغ فيكتور هوجو سن الثانية والعشرين. هو انيق ووسيم ويتمتع بالصحة والعافية، تضاف الى كل هذا، زوجة جميلة وروح نقية وعبقرية بدأت تتضح ملامحها شيئا فشيئا، خصوصا في مجال الشعر، وها هو يكتب الى لامرتين بتاريخ 18 يوني (حزيران) 1823 قائلا: «اكتب ولكن نحن خصوصا، حين نكون قد تغذينا برحيق الشعر، فإن خبز النشر الرخيص لن يكون كافيا للفكر». بعد كتابته لهذه الرسالة بأيام قليلة، كتب لامرتين نصا نقديا عن مؤلفه الاول: «هان من ايرلندا» يقول: «أجده ـ اي المؤلف المذكور ـ جدّ رائع. لكن عليك ان تلطف ريشتك فالخيال مثل القيثارة لا بد ان يداعب الخيال، انت تضرب بقوة. وانا اقول لك هذا، ليس صالحا بالنسبة للمستقبل»، وكانت المعركة على اشدها بين الكلاسيكيين والرومنطيقيين حين اصدر فيكتور هوجو في شهر مارس 1824 مجموعة شعرية حملت عنوان: «الاناشيد الجديدة»، وفي مقدمتها كتب يقول: «في الادب كما هو الحال في كل شيء، ليس هناك غير الجيد والسيئ، الجميل والقبيح، الحقيقي والمزيف، على الشاعر ان يسير في مقدمة الشعوب مثل النور لكي يضيء لها الطريق».

* مقص الرقيب

* في ربيع 1825، حصل فيكتور هوجو على وسام الشرف من الملك شارل الخامس، فكان ذلك حدثا بالغ الاهمية بالنسبة لشاعر شاب في الثالثة والعشرين من عمره.

في صيف العام المذكور، قام برحلة بصحبة عائلته الى جبال الالب، وعند عودته منها، كتب نصا دافع فيه عن ضرورة حماية الطبيعة والآثار التاريخية. عقب ذلك بعام اصدر مجموعة شعرية جديدة حملت عنوان «أناشيد وموشحات غنائية»، وفي الحين حازت هذه المجموعة اعجاب سانت بوف، الناقد الفرنسي الاشهر في ذلك الوقت، كما نوه بها الشاعر الفريد دي فسنيسي، الذي كتب في شأنها يقول: «لقد التهمت قصائدك ايها الصديق العزيز، وانا الآن اقرأها واغنيها واصرخ بها عاليا حتى يسمعها جميع الناس، ذلك انها اسعدتني كثيرا». في السنوات التالية كتب فيكتور هوجو العديد من المسرحيات التي نالت هي ايضا اعجاب النقاد والجمهور محققة لصاحبها نجاحا ادبيا جعله يحتل مكانة بارزة بين اشهر ادباء عصره من امثال بالزاك والفريد دي موسيه وبروسبير ميريميه والكسندر دوما الاب وجيرارد دي نرفال وتيوفيل جوتييه.. عقب انتهائه من مسرحيته «هرنافي»، واجه فيكتور هوجو لاول مرة مقص الرقابة، حيث طلبت منه وزارة الداخلية حذف بعض المقاطع، وتعديل بعض المواقف والجمل، فما كان منه إلا ان جمع حوله عددا من رموز الحركة الرومنطيقية الصاعدة المدافعين عن التقدم وعن الافكار التحررية للدفاع عن نفسه، وعند عرضها، شهدت اقبالا جماهيريا كبيرا غير ان الصحافة المحافظة شنت عليها هجوما عنيفا، الشيء الذي اجبر صاحب البناية على طرد هوجو من الشقة التي كان يسكنها. وكانت الضجة التي اثارتها مسرحية «هرنافي» لا تزال قائمة، حين اندلعت ثورة يوليو (تموز) عام 1830، لتسقط شارل العاشر، وتنصب لوي فيليب ملكا على فرنسا. منتشيا بهذا الحدث السياسي انهى فيكتور هوجو، في اشهر قليلة، رواية ضخمة سماها باسم كاتدرائية «نوتردام» في باريس، وعند صدورها احرزت نجاحا جماهيريا كبيرا، وقد كتب لامرتين يقول بشأنها وبشأن صاحبها: «ان فيكتور هوجو هو شكسبير الرواية، هذه الرواية التي هي في نظري ملحمة العصور الوسيطة، لقد كبر مؤلفها كثيرا في عيني، انه اعلى من ابراج كاتدرائية نوتردام!».

وكان فيكتور هوجو يتذوق حلاوة نجاح روايته المذكورة، لما اكتشف ان زوجته ادال ترتبط بعلاقة غرام مع صديقه الناقد سانت بوف، وتحت وقع الصدمة التي المت به اصدر مجموعة شعرية جديدة: «اوراق الخريف»، وفي احدى قصائدها كتب يقول متوجعا: «وا أسفاه! آه يا صديقتي، وا أسفاه! ها العتمة تغمر سماءنا والحياة تصبح مظلمة، وها الشؤم يسيل ببطء على قمة سمائنا المتألقة».

* هوجو السياسي

* وكان في قمة مجده الادبي، لما احترف فيكتور هوجو العمل السياسي، وفي خطبه التي كان يلقيها في البرلمان، اهتم بالعديد من القضايا السياسية والاجتماعية ودافع عن ضرورة عودة عائلة نابليون بونابرت من المنفى، وقد منعته ثورة فبراير 1848 من القاء خطابين هامين حول قوانين السجون وحول عمل الاطفال. وعند قيام النظام الجمهوري في 25 من الشهر والعام المذكورين، ابدى فيكتور هوجو مساندته للنظام الجديد، متخليا بذلك عن مناصرته للنظام الملكي، ودعم لامرتين الذي رشح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية، وفي عام 1849، اصبح عضوا في المجلس التشريعي، وبدأ يقترب من التيارات الليبرالية اليسارية ليصبح من اشد المدافعين عن النظام الجمهوري، وعن العدالة الاجتماعية، وعن المبادئ الديمقراطية وعن التقدم الصناعي.

وفي خطاب ملتهب القاه يوم 17 يوليو 1851، اظهر فيكتور هوجو معارضته لرئيس الجمهورية وطالب بتحوير الدستور. اثر ذلك تدهورت الاوضاع السياسية في فرنسا تدهورا كبيرا، وبدأت القوى المحافظة تعدّ العدة لسحق المعارضين له. وقد واجه فيكتور هوجو هذه الازمة السياسية الجديدة بشجاعة كبيرة، محرضا القوى التقدمية واليسارية على المقاومة والصمود، غير ان الاوضاع كانت تزداد تدهورا يوما بعد يوم، الشيء الذي اجبره على مغادرة البلاد سرا، وذلك في 11 ديسمبر (كانون الاول) 1851 ليصل في اليوم التالي الى بروكسيل ومعه صناديق تتضمن مخطوطاته، ومن هناك كتب الى زوجته ادال يقول: «انا الممثل والشاهد والقاضي، انا المؤرخ بالمفهوم الكامل للكلمة».

في المنفى تابع فيكتور هوجو نضاله ضد نظام نابليون الثالث الذي اطاح بالنظام الجمهوري، ناعتا اياه بـ«نابليون الصغير»، و«القناع» و بـ«القزم» متهما اياه بـ«تخريب فرنسا» و«بقتل مبادئ التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية في المهد»، ولم يكتف بذلك، بل خصص ديوانا كاملا لذمه وهجائه قائلا في احدى قصائده: «آه.. سوف تعود ذات يوم/يوم ايها البائس/ انت لا زلت تلهث بجريمتك البشعة/ في انتصارك الدنيء، الجد سريع والجدّ محزن مسكت بك/ ووضعت اللافتة على جبهتك»، وقد ضمن الديوان، قصائد اخرى تمجد سنوات الثورة وتشيد بعظمة نابليون بونابرت. وفي الديوان الثاني الذي حمل عنوان «اسطورة القرون» يصف وضعه في المنفى، محرضا فرنسا على الثورة ضد نظام نابليون الثالث البغيض.

في المنفى انهى فيكتور هوجو اعمالا ادبية اخرى مثل «البؤساء» التي سوف تخلد ذكراه والى الابد، وعقب مرور عشرين عاما على مؤتمر السلام الذي ترأسه في باريس، انتظم مؤتمر ثان بنفس الاسم في مدينة لوزان السويسرية وذلك بين 14 و18 سبتمبر 1869. وفي هذا المؤتمر، دعا فيكتور هوجو من جديد الى ضرورة قيام اتحاد بين الدول الاوروبية، كما دافع عن آرائه في المسائل الاجتماعية والسياسية والتربوية. وعقب سقوط نظام نابليون الثالث اثر الحرب التي شنتها المانيا على فرنسا في صيف عام 1870، عاد فيكتور هوجو الى باريس واضعا بذلك حدا لسنوات المنفى الذي استمر 19 عاما. وعند وفاته في 22 مايو (ايار) 1885 عقب حياة حافلة بالاحداث والابداع والمواقف الشجاعة، شيعته الى «البانتيون»، حيث يدفن عظماء فرنسا، جماهير غفيرة تجاوز عددها مليون نسمة.