كتاب من 2001 ملحمة الصين

TT

كانت الصين، ولا تزال، عالماً مبهماً، غامضاً، نراه من بعيد ولا نعرف عنه سوى الصورة الخارجية. في مرحلة بلاد الافيون، وفي مرحلة بلاد الصراع بين التقليد والشيوعية، وفي مرحلة بلاد الرجل الواحد، التشيرمان ماو، ولا احد ولا شيء سواه. مليار مخلوق يختفون خلف رجل واحد. اذا قرأت عن الصين قرأت عنه. واذا سافر سياسي الى بكين لا يقابل سواه. واذا قام او قعد، قامت بلاد الاباطرة او قعدت. واذا ارتفع ملصق او اسم كان ماو. حتى الادب كان ماو. والشعر كان ماو. والنضال كان ماو، ثم ارتاحت الصين.

وبدأ العالم الخارجي يتعرف قليلاً الى بلاد السور العظيم. واخذ الصينيون يخرجون من الزنزانة الكبرى. وبدأ الشعراء والروائيون يطلون من نوافذ «المدينة المحرمة» يرسمون لنا صوراً مربعة عن اشكال الحياة في قارة عزلها ماو عن بقية العالم واغلق ابوابها بإحكام. وفي العام 1991 صدرت رواية بعنوان «بجعات برية» للكاتبة الصينية يونغ تشانغ التي كانت اول مواطن صيني ينال دكتوراه من جامعة بريطانية العام .1982 لم اقرأ الكتاب يوم صدوره بالانكليزية ولا يوم صدوره بالعربية العام 1997 (دار الساقي) بترجمة ممتازة لعبد الاله النعيمي، لكنني قرأته فقط العام الماضي. وطالما اعيد قرءاته، انه سيرة حادة ومذهلة ومثيرة، تكتبها يونغ تشانغ، من خلال حكاية جدتها وامها وحكايتها هي وثلاثة فصول ما بين 1909 و.1978 شيء من «الف ليلة وليلة» الصين. وشيء من رواية «البؤساء» لفيكتور هوغو. وشيء من رواية «حكاية مدينتين» لتشارلز ديكينز. ومناخ دوستويفسكي يجوب اعماق النفس البشرية باستمرار، من دون ادعاء، من دون تبجح، من دون توقف.

تخلط الكاتبة تاريخ الاسرة المحزن، الكئيب، بتاريخ الصين، المحزن، الكئيب. وترسم لنا صورة مفصلة عن البيوت من الداخل. وتبدأ الصورة مع جدتها، يختارها احد الضباط جارية له ويسكنها في منزل بعيد. وعندما وضعت ابنة (ام المؤلفة) سمح لها اخيرا بالمجيء الى منزله ومقابلة زوجته الرسمية: «عندما دخلت جدّتي الغرفة، خرّت راكعة وسجدت قائلة: احييك سيدتي، بحسب الاصول المرعية. وبعد وقت قالت لها زوجة الجنرال انها تستطيع الوقوف، وبذلك حددت موقع جدتي في تراتبية المنزل بوصفها شبه عشيقة، اقرب الى شكل ارقى من اشكال الخدم منها الى زوجة (...) وحين جلست جدتي اخبرتها الزوجة ان ابنتها ستربّى من الآن فصاعداً وكأنها ابنة الزوجة، وستناديها هي وليس جدتي، ماما، وعلى جدّتي ان تعامل الطفلة بوصفها سيدة البيت الشابة وان تتصرف على هذا الاساس».

لا نهاية ولا حدود، لعدد المظالم واشكال الظلم في «بجعات برية». تفاصيل وصور تتلاحق عن عالم قاس، قمعي، متوحش، يعيش مرحلة انتقالية صعبة ومحزنة خلال الصراع بين قوى الكومنتانغ (تشان كاي تشك) وقوى «المسيرة الطويلة». ولم تكن ميليشيات «الكومنتانغ» اقل وحشية واضطهاداً وارهاباً وتفظيعاً واغتصاباً، من خصومها. فلا فرق بين ميليشيا واخرى الا بالاسم والشعارات التي ترفعها.

«لكن المشاعر الطيبة التي شعر بها الناس تجاه الكومنتانغ، ما لبثت ان تحولت الى خيبة مريرة. فأغلبية المسؤولين كانوا من انحاء اخرى من الصين، وكانوا يتحدثون مع اهل الولاية باستعلاء ويخاطبونهم بوصفهم عبيداً بلا وطن ويعظونهم كيف ينبغي ان يكونوا ممتنين للكومنتانغ على تحريرهم من اليابانيين. وذات مساء كانت هناك حفلة للطلاب في مدرسة امي». وقرأت ابنة احد المسؤولين البالغة ثلاث سنوات خطاباً استهلته بالقول : نحن الكومنتانغ، حاربنا اليابانيين ثماني سنوات والآن انقذناكم يا من كنتم عبيد اليابان. فانسحبت امي ورفيقاتها من الحفل.

«كما شعرت امي بالاشمئزاز من الطريقة التي تهافت بها الكومنتانغ على خطف الجواري في العام .1946 كانت جنجو مليئة بالجنود. وكانت امي في مدرسة البنات الوحيدة في المدينة. وانقضّ الضباط والجنود اسرابا للبحث عن جوار او زوجات».

كانت صين تلك المرحلة بلد العادات والطقوس. ولم يكن الميت يدفن الا بعد 49 يوماً «وكان يفترض ان يكون صوت العويل والبكاء مسموعاً بلا توقف، من الصباح الباكر حتى منتصف الليل، مصطحباً بحرق نقود مصطنعة على الدوام ليستخدمها الميت في العالم الآخر. وكانت بعض العائلات تستأجر محترفين يؤدون المهمة عنها».