أخطار الإحساس بالقوة الفائقة

TT

ما زالت الولايات المتحدة أسيرة حوادث 11 سبتمبر وما زال احساس الترابط أو «الوحدة» بين طوائف الشعب مزدهرا والناس تملأهم الحماسة الوطنية والاعتزاز ببلادهم وعلى السيارات أو لافتات الدكاكين تجد عبارة «اللهم بارك أمريكا». ولم تحاول المؤسسة الاعلامية ان تهدئ من هذه المشاعر العاطفية، أما المؤسسة السياسية فهي تستثمرها، كل حزب او جماعة من زاوية مصلحته او طموحه السياسي، ومع انه من الصعب القول بأن اجهزة الاعلام تخضع لتوجيه سياسي أو فكري من هذا الجانب او ذاك إلاّ انك تجد ان هناك خطوطا عامة تكاد تربط بين الآراء المختلفة.

خذ قضية فلسطين على سبيل المثال، فإن كنت امريكيا فانك في النهاية ستجد ان الصراع بين الاسرائيليين والفلسطينيين هو بين طرفين، كل منهما صاحب حق، وقد تغضب للعمليات الانتحارية التي يقوم بها الشباب الفلسطيني كأسلوب لمكافحة الاحتلال الاسرائيلي، وعلى الاغلب سوف ترى ان هذه عمليات ارهابية. بمعنى آخر نستطيع القول بأن المؤسسة الاعلامية الامريكية ـ بشكل عام ـ تروج للفكر الصهيوني على حساب الحق الفلسطيني، وتقوم بالفعل بعملية غسيل مخ لجمهورها. حقا انك تجد بين وقت وآخر برنامجا تلفزيونيا أو محاضرا يشجب ما تقوم به القوات الاسرائيلية، وكذلك الاسراف في استعمال القوة في افغانستان، مثلما فعل العالم اللغوي الشهير نعوم تشومسكي الذي شاهدته يلقي محاضرة بالغة الاهمية على شاشة التلفزيون، ولكن هذا شيء نادر، فضلا عن ان حديث الرجل ليس سهلا على الرجل العادي وقد لا يلفت نظره على الاطلاق، كما انه يتكلم من وجهة نظر رجل العلم وليس من وجهة نظر رجل السياسة، اي انه يفتقر الى مهارات السياسي المدرب على استمالة جمهوره. والرجل العادي نفسه اصبح يتلقى المعلومات من الاجهزة الاعلامية في شكل قوالب نمطية (Stereotype)، وهذا امر ادركه محترفو الاعلام وصار الدعائي او المغرض منهم يستخدم هذا الميل العام في عملية سهلة لغسيل المخ وايقاع جمهوره في ورطة الابتسار والجهل.

وربما خرجت من متابعتي للميديا الامريكية بأنها اكثر تحيزا واقل موضوعية من الميديا البريطانية. ولا شك ان رجل الاعلام ـ مثله مثل سائر مواطنيه ـ يتأثر عادة بالروح العامة التي تصبغ المجتمع بسبب حادثة ما، مثل حوادث الحادي عشر من سبتمبر، او حرب وطنية، ولكن على هذا الاعلامي ان يرتفع على مشاعره الخاصة وان يراجع نفسه ليتخلص من كل العناصر التي تشده الى الانحياز والابتعاد عن الحقيقة، والحق انني دهشت عندما جلست مع بعض الشبان العرب الامريكيين، وكانوا بالصدفة على درجة عالية من التعليم، فوجدت انهم منقادون تماما للافكار الرئيسية التي تروجها الميديا الامريكية بما فيها من انحيازات صارخة للسياسات الصهيونية وتبرير اعمال العنف البالغة القسوة ضد الفلسطينيين.

ولقد كان علي ـ بين وقت وآخر ـ ان اراجع افكاري وامحص معلوماتي حتى لا اكون فريسة لعملية غسيل مخ، بسبب طول الاقامة في المجتمعات الغربية. والموضوع لا يتعلق بمؤامرة ضد عقل المواطن، بل بظروف عديدة تحيط بعملية نقل المعلومات، تشترك فيها شبكة من العناصر البالغة التعقيد، والانسان يتلقى المعلومات بحسن نية وغالبا ما يعطي ثقته لهذا المصدر الاعلامي او ذاك، كما اننا صرنا نرتاح لقولبة الافكار والمعلومات بسبب فيضان المعلومات الذي يلاحقنا طوال الاربع والعشرين ساعة تقريبا، وحاجتنا الى الاختصار والتركيز والاختيار، وكلها عناصر تشترك في تركيب عملية القولبة.

وهكذا بدلا من المجتمع الديمقراطي المتعدد الآراء والمنفتح على مختلف الافكار، نجد اننا نقترب من المجتمعات الشمولية التي كانت تعمد الى توحيد الافكار والمواقف في خدمة مصالح سلطة عليا تفرض آراءها على الجميع.

وفي الحديث المتداول في امريكا قلما تخطر على الذهن منظمة الامم المتحدة، وتتصدر القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة كل شيء، لدرجة ان احد مذيعي الاخبار في التلفزيون الامريكي وجه سؤالا الى محدثه الخبير في الشؤون العسكرية عن القوة الثانية في العالم بالنسبة لامريكا واشار المذيع الى بريطانيا باعتبارها القوة الثانية في رأيه، فما كان من الخبير إلا ان قال بشكل قطعي لا توجد قوة ثانية، ولا حتى الاتحاد الاوروبي مجتمعا. وقد تكون الاجابة صحيحة، ولكن من الواضح ان هذه القوة في حد ذاتها مدعاة الى بداية سباق تسلح من نوع جديد. ولقد استنامت اوروبا في فترة الحرب الباردة للقوة العسكرية الامريكية النووية بشكل خاص، واعطتها قواعد عسكرية ثابتة، كان محرما على العسكريين الاوروبيين ان يدخلوها احيانا.

وكان هذا مفهوما وربما مقبولا، اثناء المواجهة النووية بين العملاقين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، اما اليوم فمن الواضح ان امريكا تستثمر هذه القوة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانحلال قواه، وهي تفعل ذلك في كل النزاعات التي تدخلها، ولا تكاد تطلب من حلفائها إلاّ موافقات شكلية، وقد رأينا هذا عندما رأت الحكومة البريطانية، التي كانت اول مبادر للوقوف الى جانب الولايات المتحدة بعد حوادث 11 سبتمبر، ان ترسل من قواتها خمسة آلاف جندي الى افغانستان، ولكن امريكا رفضت هذه المساعدة وضيقّتها الى اضيق الحدود. وربما كانت رغبة بريطانيا راجعة الى دورها التاريخي في المنطقة وخبرتها بها، وقد سمعت من بعض الامريكيين العاديين ان تدخل توني بلير رئيس وزراء بريطانيا المتحمس هو نوع من اختطاف القيادة من الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش في المعركة ضد الارهاب.

والواقع ان لسباق التسلح في امريكا ظروفا مختلفة عن مثيلاتها في اوروبا، بما في ذلك روسيا الاتحادية الحالية، وقد انقضت الخمسون سنة الماضية في الاستعداد الامريكي وبلغت الذروة في الحائط الصاروخي الذي تسعى حكومة بوش الحالية لانشائه. ومن الواضح ان الولايات المتحدة تنطلق في سياستها الخارجية من هذه القوة وتستخدمها في فرض سياستها دون مواربة وبقليل من الكياسة ايضا.

واذا كانت القوة العسكرية سندا واساسا للسلوك السياسي ـ مرة اخرى ـ فإنه من المتوقع ان تعود الامم المختلفة الى محاولة امتلاك هذه القوة مما سيدخل العالم في سباق محموم، بعد ان كانت منظمة الامم المتحدة املا لحل النزاعات الدولية، ولمزيد من التوسع من اجل اقامة نظام دولي جديد.

ومع ذلك فإن النجاح العسكري الذي تحقق في العراق اولا منذ عشر سنوات، وكذلك النجاح في افغانستان يرجع الى سياسة اكثر تبصرا من التي اتبعتها الولايات المتحدة في فيتنام. ففي العراق اقامت حلفا مع كل القوى التي يمكن ان تزود العراق بالسلاح وفي مقدمة ذلك الاتحاد السوفياتي، وهكذا تم الامر بالنسبة لافغانستان فمصدر السلاح الذي كانت تتلقاه طالبان هو باكستان، ومن الوهلة الاولى اتجهت امريكا وبشكل حاسم الى الحكومة الباكستانية وامكن عزل حركة طالبان عن الدعم الباكستاني، كما كان من السهل عزلها عن الدول الاخرى المحيطة بها، وهو الامر الذي لم تتمكن الولايات المتحدة من عمله اثناء الحرب الباردة في صراعها مع فيتنام، اذ كانت هذه الاخيرة تتلقى السلاح والمساعدات من الاتحاد السوفياتي ومن الصين. وهو نفس الشيء الذي حدث بالنسبة للتدخل السوفياتي في افغانستان، اذ كانت الاسلحة والمساعدات تتدفق نحو حركات المعارضة من باكستان التي كانت تربطها علاقات قوية بالولايات المتحدة التي كان لها وجود قوي في حرب افغانستان ضد التدخل السوفياتي.

هذا الشرط من الواضح انه ضروري لأن القوة العسكرية مهما عظمت تفتقر دائما الى سياسة تعبئة شاملة لتمنع قيام حرب العصابات التي تعجز القوة الكبرى عن تصفيتها تماما ما دامت تتلقى دعما من هذا الجانب او ذاك.

ولعله لهذا السبب ما زالت الولايات المتحدة مدركة لاهمية التحالف الدولي حتى يمكن عزل الهدف المطلوب تصفيته عن كل مساعدة. بمعنى آخر فإن القوة العسكرية الامريكية لا تستطيع ان تنفرد بالعمل في اي موقع من مواقع الاشتعال ما لم تعزله عن اي مساعدة، وهذا يقتضي موافقات سياسية دولية، ولقد كان من الممكن ان تكون حرب افغانستان خاسرة بالنسبة لامريكا لو ان المقاتلين الافغان كانوا يستندون الى ظهر دولي يمدهم بالسلاح والمساعدات والتأييد.

ومع اننا لم نشهد مواقف مغايرة للمواقف الامريكية في المعركة ضد الارهاب بسبب معاناة الدول جميعا منه، إلا ان السياسة الامريكية في حاجة الى شيء من الانضباط. ومرة اخرى يعود توني بلير للظهور في الصراع بين الهند وباكستان، وربما نجح في التوفيق بين وجهتي النظر المتعارضتين بالنسبة لكشمير، فلبريطانيا تاريخ طويل في المنطقة، وربما كانت اقدر على تفهم طبيعة الصراع وخلفياته، على ان الاكثر اهمية هو المبادرات التي يقوم بها توني بلير بصفة خاصة، وقد رأينا له مواقف متعددة في اكثر من ازمة من الازمات الساخنة في العالم. ولكنه يبدو ـ حتى الآن ـ ليس مدعوما تماما من الاتحاد الاوروبي الذي ما زال يتحرك في الحياة السياسية الدولية بكثير من الحذر، وربما بعد استجلاء او تحسس الموقف الامريكي.

ان العالم في الواقع محتاج الى مزيد من اتساع المشاركة بين دول العالم، خاصة في المنازعات الساخنة التي تهدد بالكثير من الكوارث. ان معاهدة كيوتو للحد من تلوث البيئة لا تقل اهمية عن حل الصراع بين الهند وباكستان، وانسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة عمل خطير، خاصة لأنها اكثر الدول جميعا تلويثا للبيئة، ولكن القوى الدولية عاجزة عن اتخاذ اية خطوة تقنع او تفرض على الولايات المتحدة التزامها بوقف التلوث.

ومع انه من الصعب ان نتوقع حربا نووية بين الهند وباكستان بسبب النزاع حول كشمير، إلا ان الاحتمال قائم مهما صغرت او ضؤلت نسبته، فهل ستظل السياسة الدولية قائمة على حث الاطراف على الجلوس حول طاولة المفاوضات؟

ان النزاع الفلسطيني الاسرائيلي لا تحاول الدول الكبرى حله إلا من خلال الدعوة الى المفاوضات، وفي حالات التعنت الكبرى، او تعقيد الازمة يصعب التوصل الى حل. ولاسباب عديدة غاب التحكيم الدولي، ولم يتقدم القانون الدولي خطوة واحدة نحو ان يصبح قانونا قابلا للنفاذ، وان هناك قوة دولية تتراضاها الاطراف لتنفيذ قرارات التحكيم، وفي الكثير من الاحيان في الدول القائمة ـ حاليا ـ يتقبل الافراد احكام القانون ويخضعون لتنفيذها حتى دون ان تقوم بذلك قوة تنفيذية.

ونحن لم نتقدم بالمنظمة الدولية لأن القوى الكبرى ارادت استخدامها لمصالحها فقط، باعتبارها قوة حاكمة، وقد قبلت الدول صاغرة حق الفيتو لخمس دول فقط، ومنذ هذا التاريخ وهيبة الامم المتحدة تتناقص حتى كادت ان تصبح صفرا، وما اكثر القرارات الدولية التي صدرت من المنظمة بالنسبة للصراع العربي ـ الاسرائيلي، ومع ذلك تم تجاهلها تماما.

اذا لم تكن الولايات المتحدة ـ بسبب ما تشعر به من قوة ـ قادرة على تفهم المشاكل التي تمر بها المجتمعات البشرية، وفي مقدمة ذلك عملية الارهاب، فإنه من الضروري على المجتمع الدولي ان ينهض للقيام بدوره واعادة العالم الى حكم العدالة والقانون قبل فوات الاوان.