كيف يمكن لأفغانستان أن تتعلم من الماضي؟

TT

عندما زرت إسلام أباد خلال شهر مارس من عام 1997، علمت ان بالمدينة عدداً من كبار المسؤولين في طالبان. وبعد اتصالات أولية تمكنت من ترتيب تناول طعام الغداء مع الملا وكيل أحمد متوكل، الذي كان حينها يشغل منصب وزير خارجية طالبان.

لكن في الصباح التالي جاء إليَّ مبعوث من طالبان ليقول ان الملا سيلتقي بي لكنه لن يتناول الطعام والسبب ان طالبان تحرت عن مطبخ الفندق ووجدت ان كبير الطهاة فيه كان فرنسياً. وهكذا قال المبعوث: «لسنا واثقين من الطعام الإفرنجي».

سألت المبعوث عن سبب عدم اتصالهم بي هاتفياً لإخباري بذلك، فنظر اليّ بحيرة وقال: «الهاتف يستخدم للاتصال بالاماكن البعيدة».

بعد ساعات قليلة، تم اللقاء الذي ساده جو غريب. حيث تناولت وجبتي فيما كان الملا متوكل، الذي أحاط به مساعده يتأملني ويتحدث.

حينها كان وزير الاعلام الباكستاني آنذاك مُشَّهَدْ حسين قد وصف متوكل بأنه «معتدل يتمتع بعقل متفتح». وذلك ربما هو السبب الذي جعله يشغل منصب وزير خارجية طالبان. وبعد أشهر قليلة لاحقة، أي خلال شهر اكتوبر من نفس العام، تصادف وجودي في اسلام أباد عندما كان متوكل يقوم بزيارة عمل للمدينة. قررت تجديد دعوة الغداء في نفس الفندق الفرنسي. وحينها لبى الدعوة بدون تردد وتناول طعاماً شهياً، أعده نفس الطاهي الفرنسي.

كانت التغييرات التي بدت على الملا متوكل خلال ستة أشهر من أعجب ما يمكن ان يراه المرء. فالرجل الصلف، الذي كان يتصرف بشكل طفولي تقريباً ويكثر الكلام، ما يزال على قيد الحياة، لكنه كان مجرد صدى فقط. وقد ارتدى ضيفي ملابس بدا انها كانت مصنوعة من مواد أولية مرتفعة الثمن، بينما تدلت من معصمه ساعة ثمينة مكسوة بالذهب. في هذه المرة كان الملا يتحدث كديبلوماسي، يسعى لكسب اصدقاء جدد ولطمأنة الخصوم المحتملين. وعندما سألته عن أسامة بن لادن، حاول الملا التقليل من أهمية المسألة برمتها عندما وصف المنشق الهارب بأنه «ذبابة تحدث بعض الضجيج ويجب تركها حتى تلقى مصرعها في زاوية ما».

حقيقة واحدة برزت خلال المناسبتين، تمثلت في وجود عدد من الاجانب، وتحديداً عملاء المخابرات الباكستانية حوالي قادة طالبان. كان يمكن ملاحظة ذلك لأن أولئك العملاء لم يكونوا يتحدثون اللغة الفارسية على الإطلاق، وبدا جلياً انهم كانوا يشعرون بالإحباط لعدم تمكنهم من تتبع مسار تلك المقابلة، حتى انهم في لحظة ما اقترحوا ان تتم المحادثة باللغة الانجليزية، «لمزيد من الوضوح».

العودة لتلك الحكاية مفيدة للتأكيد على مسألتين: الأولى ان طالبان، وبعد عام من سيطرتهم على كابول، كان يبدو عليهم الاستعداد لتقبل التغيير. كانوا قد بدأوا ادراك المسؤوليات التي تصاحب السلطة السياسية وبدأوا في الاستمتاع بالمظهر الذي توفره. فقد بدا ان متوكل أدرك بما لا يدع مجالاً للشك ان رجال الحرب لا يمكنهم ان يتبنوا خلال الحكم نفس مسلكهم ابان الصراع على السلطة.

أما المسألة الثانية، فترتبط مباشرة بالأولى، وهي التأثير السلبي للنفوذ الأجنبي، وعلى الأخص الباكستاني، على طالبان.

فقد استهلت طالبان حركتها استناداً الى رد فعل شعبي، تلقائي الى حد كبير، ضد الفساد والتعسف الذي مارسه تجار الحرب المحليون في قندهار، التي تمثل مركز تجمع قبائل البشتون في البلاد. وهؤلاء البشتون، الذين يشكلون حوالي 38 في المائة من السكان، هم اكبر طوائف افغانستان العرقية، وحكامها التقليديون. لكن مع حلول عام 1992، لم يتوفر لديهم اي زعيم بارز يتولى الدفاع عن مزاعمهم التاريخية. ومع سيطرتهم على قندهار والدفع بالملا محمد عمر كزعيم لهم، كان بعض ابناء البشتون على الأقل يعملون من اجل عودة طائفتهم لمركز صناعة القرار الافغاني. لكن تلك المحاولات تعرضت للتهميش عندما قررت اجهزة المخابرات الباكستانية تحويل طالبان الى اداة لممارسة نفوذ اسلام أباد في افغانستان.

وقد وقعت طالبان، التي تكونت على الأرجح من شباب يافع فقير لا تتوفر لديه أية خبرة سياسية عملية، في الفخ، وكان للدعم الباكستاني، على هيئة اسلحة حديثة وحقائب مليئة بأوراق العملة المطلوبة لشراء دعم تجار الحرب المنافسين، مفعوله السحري. حيث نسي الناس ان طالبان فتحت ما يقرب من 80 في المائة من أفغانستان بدون معركة واحدة.

وتلك السهولة التي صاحبت النصر كان لها تأثيرها على رؤوس طالبان. حيث اعتقدوا ان «فضلاً مقدساً» قد حل بهم وانهم حققوا النصر بتلك السرعة ليس لأنهم كانوا يملكون المال والاسلحة، بل لأنهم يقومون بمهمة سماوية. ومن المؤسف ان بعض الساسة الباكستانيين والجنرالات دعموا تلك الفكرة الخيالية.

لقد اعتاد الجنرال نصير الله بابر الذي شغل منصب وزير الداخلية في حكومة بي نظير بوتو، وصف طالبان بأنهم «أطفاله». وبالتأكيد انه ادرك كيفية التأثير على طالبان. حيث اعتاد في كل لقاء مع قادة طالبان، تذكيرهم «بمهمة تقديم صورة حقيقية عن الاسلام للعالم». ويبدو ان العديد من قادة طالبان، ومنهم الملا عمر شخصياً، وقعوا ضحية تلك الاكاذيب المنمقة.

على ان اسامة بن لادن كان قد اكتشف في وقت مبكر سذاجة زعماء طالبان وقدرتهم على خداع أنفسهم. فقرار الملا عمر المتعلق باتخاذه لقب «أمير المؤمنين» تم تحت تأثير نفوذ بن لادن. كما ان الامر بلغ ببن لادن حداً جعله يشير الى الملا باعتباره «عمر الثالث» حيث شبهه بالخليفة عمر بن الخطاب وبالخليفة عمر بن عبد العزيز، وهو ما يشير بجلاء إلى مدى مساهمة النفوذ الشرير لأسامة بن لادن في تحويل الملا عمر من زعيم بشتوني شبه أمي الى مهوس غير عادي ذي أوهام لاهوتية.

واستناداً الى معرفتي الطويلة بافغانستان وبالشعب الافغاني اشعر بالتأكيد ان الملا عمر غريب الاطوار، كما هو حال معتقداته السياسية، لم يكن ليتحول الى مثل هذا الشرير لولا بن لادن وجماعته من المغامرين بلا هوية.

وكل هذا حدث في الماضي، أما الشيء المهم الآن هو انه لا بد من عدم تكرار الاخطاء السابقة. ويبدو حتى الآن ان هناك مؤشرات على أن النفوذ الأجنبي قد يلعب، مرة أخرى، دوراً سلبياً في الشؤون الأفغانية.

هذه المرة، تظهر الولايات المتحدة، وليس اطراف صغار مثل باكستان وايران، وهي تثير الغبار. فعلى الولايات المتحدة ان تكون متيقظة من تبني اية اوهام شخصية او جماعية في افغانستان. ومن الخطأ ان يتبنى المسؤولون الاميركيون ووسائل الاعلام خلق هالة حول شخصية حميد قرضاي. فقرضاي على سبيل المثال، رجل جيد ووطني. لكنه ليس المنقذ الالهي لافغانستان. وهو في موقعه لأنه بعد مقتل عبد الحق، لم يتسن للاميركان العثور على زعيم بشتوني آخر يمكنهم الدفع به ليتولى رئاسة حكومة مؤقتة.

كما لا يتوجب على الولايات المتحدة السعي لايجاد نظام ديمقراطي على الطريقة الأميركية في افغانستان. لأن مثل هذا النظام، بطبيعة الحال، يمكن ان يفرض في اليابان والمانيا عقب الحرب العالمية الثانية. وذلك تطلب قرابة نصف قرن من زمن الوجود العسكري الاميركي في البلدين. أما اليوم، فلا يبدو ان الولايات المتحدة مستعدة لمثل هذا الالتزام في افغانستان. وبالتالي، عليها ان تدع الافغان انفسهم يحددون شكل النظام الذي يرغبون فيه.

فكل المجتمعات، كما هو حال كل اللغات، لديها قواعدها الخاصة. ولا يمكن استثناء المجتمع الافغاني. والصورة التي تم رسمها عن افغانستان باعتبارها مكاناً يطلق فيه الجميع النار على بعضهم بعضا، تعد صورة خطيرة وغير صحيحة. ذلك ان افغانستان ومنذ تأسيسها خلال عام 1744 وحتى الغزو السوفياتي في عام 1979 كانت واحدة من اكثر البلدان استقراراً وسلاماً، إلى حد ما في العالم. وقد تم اقحامها في نزاع وفوضى فقط عندما تدخلت قوى اجنبية اما مباشرة أو عبر قبائل البشتون في شؤونها، لذلك يجب ان يسمح للأفغان بأن يتوصلوا الى سبل معالجة جراحهم وتبني نظام حكم يعكس حقائقهم وتطلعاتهم، والطريقة الوحيدة تكمن في تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الافغانية عن طريق ضمان عدم تدخل أية قوى اجنبية في الشؤون الداخلية لافغانستان. واذا ما تحقق هذا الضمان، فإنني واثق بأن افغانستان تستطيع العودة بشكل عاجل الى مصيرها الآمن. اما اذا لم يتحقق ذلك فإن الفوضى الافغانية قد تعود لتقض مضاجعنا مرة اخرى واخرى.