من العزلة إلى المشاركة

TT

بنى المفكر الامريكي من اصل ياباني فرانسيس فوكوياما نظريته في نهاية التاريخ على افتراض ان انتصار الليبرالية على النظريات المنافسة مثل الفاشية والشيوعية يرجع الى تاريخ طويل لتطور الفكر الانساني، وكان صريحا في اعتباره ان الفكر هو محرك التاريخ، على عكس النظرية الماركسية التي كانت تعتقد ان الاقتصاد هو المحرك الاساسي، وأن ما يحدث في عالم الواقع الاقتصادي ينعكس على الافكار، وأن المصالح المختلفة الناتجة عن العملية الاقتصادية هي التي تتوالد عنها الافكار. ولم يتوقف فوكوياما طويلا عند قضية: مَنْ السابق على الآخر.. الفكر او الواقع، وشق طريقه مباشرة الى هيجل الذي تبلورت فلسفته في ان تجليات الفكر هي التي تصنع الواقع. ولذلك، رأى فوكوياما ان تراث الفكر البشري يتجه الى نظام سياسي يستطيع ان يحل جميع التناقضات الناتجة عن عيش الانسان في مجتمع، بما في ذلك مشكلة الصراع الطبقي او الحروب والحريات المختلفة. وان الفكر الليبرالي هو جماع حركة التفكير البشري للوصول الى نظام يلبي حاجات الناس المادية والروحية او الفكرية. وان ديالكتيك هيجل الذي يقوم بين الفكر والواقع اصح من ديالكتيك ماركس المنبثق اساسا من الواقع. وكان ماركس يعتقد انه اقام الديالكتيك على قاعدته بعد ان كان هيجل قد اقامه على رأسه. وكان تشبيهه الشائع بالهرم المقلوب. وبناء على هذه المقدمات الفلسفية، التي رجع فيها الى مفكرين آخرين، اعتقد ان تطور الفكرة الليبرالية قد وصل الى النهاية، واوشك حلم الدولة الانسانية او «انسانية الدولة» ان يتحقق في ظل الفكر الليبرالي المعاصر وتجلياته في النظام الديمقراطي والمؤسسات المدنية وحقوق الانسان، وان النظم الديمقراطية القائمة قادرة على استيعاب كل التناقضات القديمة التي ترجع الى عصر التاريخ قبل هذه النهاية التي اسفر عنها انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاشتراكية والفاشية من قبلها. وليس من الضروري ان نشير الى آراء فوكوياما بالنسبة لاقتصاد السوق باعتباره النموذج الطبيعي للنشاط الانساني في المجال الاقتصادي، بما يكفله من حريات التعامل في قلب العملية الانتاجية والاستهلاكية. فأساس الفكرة هي قدرة النظام الديمقراطي على حل كل التناقضات، وأنها قد حلت بالفعل في النظم الديمقراطية المتقدمة وبالتالي توقف الصراع وانتهى التاريخ. ولم يفت فوكوياما التحديات المواجهة للسياسات القائمة في المجتمعات الغربية المتقدمة، مثل الدين والقومية، واعتقد ان النظم الديمقراطية والفكر الليبرالي قادران على استيعاب المشكلتين وحلهّما وأنهما في الواقع لا يكونان نقائض داخل تركيب النظام. وبناء على هذه الطريقة في التفكير فقد قسم العالم الى عصرين، احدهما ما زال يعيش في التاريخ، والثاني قد انتهى من تلك المرحلة وراح يزاول متعة الابداع وممارسة الحرية وتذوق الحياة في ظل «انسانية الدولة» او «الدولة الانسانية». بالطبع عالمنا العربي ينتسب الى العصور التاريخية وفقا لتقسيمات فوكوياما، ونحن ما زلنا نعيش مشاكل التناقضات، وبالتالي ننتمي الى عصور قديمة متخلفة. الحق انه لم يقل ذلك بشكل مباشر ولكن هذا التخريج من الممكن التوصل اليه عن طريق تأمل لهذه الافكار. وربما كانت كل هذه الاحداث المتعاقبة، وبصفة خاصة حوادث الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وما تلاها من حروب ومطاردات واضطرابات في اكثر من مجال، سببا ملحا لنتساءل نحن العرب عن موقفنا وسلوكنا. هل نحن حقا ما زلنا في قلب التاريخ القائم على الصراع والمشاكل وربما نبعد عن نهاية التاريخ بعدة قرون؟ وهل حقا تحققت الدولة الانسانية كما يزعم فوكوياما؟ على العكس، فنحن نرى مشاكل عديدة في الدولة الانسانية. بالطبع لا يمكن نكران فضائل الديمقراطية وما منحته من فرص للابداع الانساني ومن تأكيد واحترام انسانية الانسان، لكننا في نفس الوقت نرى ان انجازات الديمقراطية قد تتلاشى او تتراجع لأسباب متعلقة بظروف معينة، مثل الذي حدث في المجتمع الامريكي بعد الحادي عشر من سبتمبر، فقد وقف العالم مذهولا ـ تقريبا ـ امام عنف رد الفعل الامريكي، سواء ضد من اعتقد انهم مسؤولون عن الارهاب، او من آواهم او سكت عنهم، على الرغم من أن «الدولة الانسانية» كانت مسؤولة طوال الحرب الباردة عن الكثير من الفظائع التي ارتكبت ضد حقوق الانسان، ولم تزل مسؤولة عن فظائع اخرى تحدث اليوم في فلسطين على ايدي قيادة متخلفة للدولة الاسرائيلية، وهي في الأصل الدولة المنافية لأي مبدأ من المبادئ الانسانية التي من المفترض ان تتصف بها حكومة «الدولة الانسانية»، فضلا عن احتضان الفكر المتطرف ونزوع الهيمنة الذي ما زال قائما في السياسات الاستراتيجية للولايات المتحدة حتى اليوم. ولكن الاخطر من كل ذلك هو تلك الحوادث الاخيرة الخاصة بنقل المعتقلين من مقاتلي طالبان او القاعدة الى معسكر اعتقال رهيب، ليس بعيدا تماما عن ذكريات سجون او معسكرات النازية الالمانية، مقيدين بسلاسل الحديد وقابعين في اقفاص ربما ترجع الى تقاليد عصور اقدم من الفي سنة. ليس هذا فحسب، بل ان الانجازات الديمقراطية سرعان ما تم التراجع عنها فصدرت تشريعات تبيح محاكمة هؤلاء الاسرى، او سمهم ما شئت، امام محاكم عسكرية بحيث يصبح الخصم هو الحكم في نفس الوقت. ولما كانت حرية الفرد مقدسة بمقتضى القانون ـ دعك مما يحدث في الواقع ـ فلقد اباح تشريع جديد لسلطات الاعتقال ان تتحفظ على من تشاء من المشتبه فيهم من دون تحقيق ومن دون حساب لمدة الاعتقال او التوقيف. والغريب ان بريطانيا التي قفزت في العقدين الاخيرين على الاقل الى مراتب الدولة الانسانية، او قل الديمقراطية، سارت على نفس المنوال فراحت تسن نفس القوانين غير الانسانية التي تنتسب الى قلب التاريخ وليس نهايته. ولو نظرنا الى رد الفعل «للدول الانسانية» على جرائم الحادي عشر من سبتمبر لرأيناها ابعد ما تكون عن القواعد الاساسية للفكر الليبرالي. فهي لم تلتزم القانون ولم تتحرك بناء على قرار دولي من منظمة الامم المتحدة، بل بناء على تحالفات جرى بعضها بأسلوب التهديد السافر او نتيجة لتعاطف مفاجئ بسبب هول الصدمة، وبعيدا عن التعقل او المنهج العقلاني الذي يفترض انه العصب الاساسي في الفكر الليبرالي. وعلى الرغم من مضي وقت كاف يسمح بهدوء الاعصاب وينقي الرؤية من شوائب الانفعالات العاطفية، الا ان رد الفعل ما زال بعيدا عن القانون. فالمعتقلون الذين راحت تنقلهم الطائرات الى القاعدة الامريكية في كوبا اظهرتهم الصور في شكل بشع أثار غالبية الرأي العام المثقف في العالم، كما انكرت عليهم كل الحقوق بما في ذلك ضمانات التحقيق والمحاكمة امام قضاء محايد، وجرى تفسير بالغ الاضطراب ـ للاسف قام به بعض رجال القانون ـ بأن هؤلاء المعتقلين ليسوا اسرى حرب انما هم متهمون بجرائم جنائية لا علاقة لها بالحرب، وبالتالي لا يخضعون لاتفاقية جنيف الدولية بشأن معاملة الاسرى، وان من حق الادارة في الولايات المتحدة ان تتعامل معهم بعيدا عن اي قانون دولي. لكن، حتى لو ان هؤلاء سيحاكمون بتهمة جنائية كان ينبغي تحديد الجهة المختصة ـ جنائيا ـ بمحاكمتهم.

لقد اصبح من حق الولايات المتحدة، واي دولة اخرى ان تتدخل في الشؤون الخاصة جدا لدولة اخرى لتغيير نظام الحكم فيها، او لاسقاط اشخاص او جماعة سياسية ما لا ترضى عنها. وعلى هذا الاساس اسقطت غارات الولايات المتحدة وتحالفاتها النظام القائم في افغانستان واقامت نظاما آخر. حقا ان لدى المجتمع الانساني طموحا نحو تدخل دولي لتغيير الانظمة الفاسدة او الشريرة التي ترتكب جرائم ضد شعوبها او ضد الانسانية، ولكن هذا ينبغي ان يتم وفقا لقانون دولي ولقرار من الدول، وكل هذا ركن من اركان دولة ما بعد التاريخ لم يتحقق تماما في مسيرة حل المشكلة الافغانية.

الواقع ان التاريخ لم ينته بعد. فما لم تثبت دعائم ذلك النظام الانساني الذي يستوعب المشاكل ويقدر على حلها فان اي حديث عن «دولة انسانية» سابق لاوانه، على ان الاهم من كل ذلك هو دور دول العالم جميعا، سواء في العالم الاول او العالم الثالث ـ ايا كانت الصفة ـ من أجل تثبيت قواعد دولة ما بعد التاريخ. فالحق ان تجليات فوكوياما ليست أماني او خيالات كلها، بدليل ما نشهده من مواقف لمفكرين او سياسيين، في اكثر من موقع في العالم، تقف الى جانب حقوق الانسان ومبادئ العدالة، وليس هناك اكثر من الكاتبين والباحثين الاوروبيين والامريكيين الذين دافعوا عن حق اسرى حرب افغانستان في المعاملة الانسانية ووفقا للقوانين الدولية التي تعتبر احد انجازات السعي الى الدولة الانسانية في الخمسين سنة الماضية.

واليوم لم يعد الحديث عن شرق او غرب شيئا حقيقيا، فالعالم كله يجاهد من اجل وجود تلك الدولة النموذج ـ «الدولة الانسانية» ـ وليست المجتمعات العربية بغريبة عن هذا، فكل ما لحق بنا من مشاكل ليس متولدا فقط عن مواريث الزمن التاريخي القديم، بل من تدخلات وتحيزات غير انسانية ليست آخرها ما يحدث الآن من اضطرابات فكرية واخلاقية وقانونية بعد الحادي عشر من سبتمبر الماضي. ولم تعد قضيتنا البحث عن الاصالة والمعاصرة، كما كان يقال لفترة طويلة، بل مشاركة العالم في الانتقال من التاريخ الى النهاية الموعودة. ###