التقاء الذين لا يلتقون

TT

خلال السنوات الاربعين الماضية بدت قاعدة «غوانتانامو» الاميركية في كوبا مجرد قذى في العين: ليس في امكان اميركا ان تستخدمها لشن اي هجوم عسكري على الجزيرة المعادية، وليس في امكانها ان تستخدمها لشن اي هجوم على طرف ثالث. وعندما وقعت المواجهة الكبرى بين اميركا والسوفيات حول الصواريخ النووية في كوبا، بدت «غوانتانامو» شيئاً لا معنى له ولا فائدة منه، سوى انه يذكّر الفريقين بمدى القرب الجغرافي ومدى العداء الايديولوجي.

نسي العالم اجمع «غوانتانامو» طوال السنوات الماضية. ولم تعد القاعدة العسكرية مسألة كبرى في العلاقات الاميركية ـ الكوبية، بقدر ما اصبحت الأزمات الكبرى تثار حول الطفل «غوانزاليس» الذي هرب من امه في كوبا الى ابيه في فلوريدا ثم استعيد الى مدرسته ورفاقه واستعيدت معه كرامة كوبا الثورية. واصبح رجال الاعمال الاميركيون يأتون الى الجزيرة للبحث في فرص الاستثمار المقبلة، خصوصاً ان كاسترو فتح الابواب نصف فتحة امام السياح وحملة العملة الصعبة بصرف النظر عن موقفهم من الاشتراكية الدولية و«حتمية» سقوط الرأسمالية في «مزبلة التاريخ» وغير ذلك من المصطلحات التي حفل بها القاموس الشيوعي من «اجل خدمة الطبقات الكادحة». ولعل افضل مثال على نعيم الطبقات الكادحة هو في كوبا نفسها او في كوريا الشمالية. وتقدم كل كوبا نفسها الآن لاستقبال السياح، وقد تحولت المنازل في غياب الفنادق الى منامات يجني اصحابها من الارباح «الجانبية» اضعاف ما يجنونه من دخولهم العادية كأساتذة او اطباء.

كان لا بد من حرب على افغانستان لكي يتذكر العالم من جديد وجود قاعدة عسكرية اميركية في قلب كوبا. ولكن لماذا يُنقل المعتقلون من «الأفغان العرب» او الافغان الافغان، الى هناك؟ لماذا ليس الى نيويورك او فلوريدا او حتى الاسكا وصحارى الثلج البعيدة؟ لست اكيدا من الجواب. لكن لعله في ان كوبا بعيدة عن الصحافة والاضواء. وأبعد منها القاعدة العسكرية التي يمكن اغلاقها في وجه الجميع. ومن تلك العزلة الحديدية في غوانتانامو لن يكون في امكان السجناء تلقي الرسائل او ارسالها، خلافاً للامكانات المتوافرة في سجون نيويورك. هناك عزلتان، الواحدة في قلب الاخرى: القاعدة المحصنة، في قلب كوبا المعزولة.

لكن بموجب اي قانون يجري استجواب المعتقلين؟ وفي حضور اي نوع من المحامين؟ وهل هناك محامون في الاساس؟ هل تلغي المحاكم العسكرية حقوق المتهم والمعتقل؟ لعل غوانتانامو هي السابقة الاولى منذ الحرب العالمية الثانية: محاكمة عسكرية في قاعدة عسكرية خارج الارض الاميركية وبعيدا عن كل عين.

وثمة مفارقة اخرى وسط كل هذه المفارقات: اميركا تلجأ الى آخر نظام شيوعي في العالم، لكي تحاكم اولئك الرجال الذين كانت تدعمهم بالأمس لكي يحاربوا الشيوعية معها. من كان يتصور ان غوانتانامو سوف تتحول الى سجن «للأفغان»، وان شهرتها لن تكون في انها قاعدة اميركية في قلب كوبا فحسب، بل في انها مكان انتقام مشترك: كوبا تنتقم من محاربيها واميركا تثأر من الذين قاتلوها. وراء الاسلاك!