صديق أم عدو؟ هكذا ترى الولايات المتحدة عالم اليوم

TT

من يقوم هذه الأيام بزيارة للولايات المتحدة لا بد ان يتوفر لديه على الفور انطباع بأن هذا البلد يبحث عن استراتيجية جديدة. وهذا المسعى دفعهم للتنقيب في جملة من المصادر، ابتداء بأرسطو وحتى هيغل وغيرهما من الفلاسفة الذين اهتموا بالسياسة.. الممكن منها وصعب المنال.

فالعديد من الأميركيين يريدون اجابات مختصرة وبسيطة لعدد من الأسئلة. ومن هذه الأسئلة: لماذا يبدو ان هناك الكثير من الناس ممن يكرهون الولايات المتحدة لهذا الحد؟ سؤال آخر مفاده ما هي الوسائل التي يمكن للولايات المتحدة استخدامها لنزع فتيل قنبلة الكراهية الموقوتة التي يبدو انها قابلة للانفجار في هذا الجزء من العالم او ذاك؟ وسؤال ثالث يقول: من هم أولئك الذين يمكن الوثوق بهم كأصدقاء او الحيطة منهم كأعداء؟

وهذه جميعها يمكن على الأرجح اختصارها في سؤال حيوي يقول: ما هو الموضوع الأساسي للسياسة؟ وقبل ان نتناول هذه النقطة الأخيرة دعونا نتخلص من الأسئلة السابقة، فالافتراضات التي تقول ان الولايات المتحدة دولة ممقوتة على المستوى الدولي تبدو خاطئة بشكل جلي. ويمكن هنا ان نطرح كيف ان الولايات المتحدة ما تزال تعتبر وبشكل مدهش الدولة العظمى التي يمكن اتهامها بأن لديها طموحات الهيمنة، ولم تجرؤ دولة واحدة عضو في الأمم المتحدة، بما فيها العراق، على محاولة تحدي التدخل الأميركي في افغانستان بشكل جاد، فالتحالف المضاد للارهاب الذي أقامه الرئيس جورج دبليو بوش استقطب تأييد ما يزيد على 130 دولة. ومعظم ذلك التأييد معنوي، بطبيعة الحال، لكنه أشار الى النيات الحسنة تجاه الولايات المتحدة. ولم يؤد قصف أفغانستان، الذي تم معظمه خلال شهر رمضان، الى اثارة «الغضب الاسلامي» المتوقع. وخلال اربعة أشهر شهدت الدول الاسلامية 17 مظاهرة فقط ضد القصف، 12 منها كانت في مدينتي بيشاور وكويتا بباكستان.

والأهم من ذلك، ربما، ان الولايات المتحدة ما زالت واحدة من اكبر أربع دول شريكة في التجارة مع جميع الدول الاسلامية تقريباً بما فيها العراق الذي تضرر بسبب العقوبات الاقتصادية وايران «التي تكره اميركا».

وهناك مؤشرات أخرى على ان اميركا ليست موضع تلك الكراهية التي تتخيلها. وهي انها ما تزال الهدف السياحي الأول في العالم، حيث يزورها كل عام ما يقرب من 70 مليون شخص ينتمون لـ180 بلداً مختلفاً، كما ان الولايات المتحدة تعد الدولة المستقطبة الكبرى في العالم للدارسين الأجانب وللباحثين وأساتذة الجامعات. كما ان ما يقرب من 100 مليون شخص أجنبي لديهم استثمارات مباشرة وغير مباشرة مرتبطة باقتصاد الولايات المتحدة، ومن بينهم الطبقات الحاكمة في معظم الدول تقريباً. وفي ما يتعلق بالناتج الثقافي، تبدو الولايات المتحدة، والى حد ما من الحب والكراهية، مهيمنة على أسواق معظم دول العالم، حتى ان الأفلام السينمائية الأميركية المسروقة، على سبيل المثال، تحظى بجمهور واسع من المشاهدين في ايران، يفوق أفضل الأفلام مبيعاً في ايران نفسها. ويكفي ان نشاهد اعداداً كبيرة من المواطنين يصطفون لشراء شطائر الهامبورغر في بكين وموسكو وباريس، وان نترقب جماهير الشباب يرتدون الملابس والقمصان الأميركية في جميع العواصم، لندرك ان «الشيطان الأكبر» يستقطب اعداداً تفوق تلك التي تقاومه.

وبعبارات أخرى يجب عدم المبالغة في مدى «كراهية اميركا» على المستوى العالمي. فالمجاميع الصغيرة من المهووسين من جميع الأشكال، ابتداء بالأصوليين المتدينين الى من يدّعون القومية الى المعجبين ببن لادن، يكرهون الولايات المتحدة فقط لأن هذا الأمر يبدو مثيراً لأسباب عديدة.

اما في ما يتعلق بما يجب على الولايات المتحدة القيام به لنزع فتيل قنابل الكراهية الموقوتة، فان الاجابة تبدو ايضاً ميسرة. فالولايات المتحدة لا يمكنها معالجة ما يعاني منه المهووسون في انحاء العالم، وسيظل هناك دائماً البعض ممن يكرهون القوى العظمى في زمانهم، وأفضل سياسة يمكن للولايات المتحدة ان تتبعها هو ان تبقى مخلصة لمبادئها ولقيمها ولأفكارها وان تعمل على ان يكون نظامها الأمني في افضل حالاته الممكنة.

ويبدو ان الرئيس الاميركي السابق ثيودور روزفلت وضع صياغة لأفضل سياسة متعلقة بهذا الأمر منذ ما يقرب من مائة عام عندما قال «تقدم للأمام بهدوء لكن وأنت تحمل عصاً «غليظة».

وهكذا فان أية محاولة قد تقوم بها الولايات المتحدة لاعادة صياغة العالم ولافتراض انها قد تعالج جميع المشاكل التي تعاني منها البشرية، قد تؤدي الى اضرار عكسية. أولئك الذين لا تتوفر لديهم دوافع آيديولوجية بشأن كراهية اميركا قد يعتبرون مثل هذا التدخل مبرراً اضافياً لكراهيتهم تلك.

والآن دعونا نتعامل مع السؤال الحيوي: ما هو الموضوع الأساسي للسياسة؟ اما الاجابة فهي ان الأمر الحيوي في السياسة، كما هو الحال في القواعد الأخرى للتعامل مع الوضع البشري، هو حق الاختيار.

في ما يتعلق بالمسائل الاخلاقية يكون الخيار بين الخير والشر. أما في علم الجمال فالخيار هو بين الجمال والقبح. وفي الأديان يختار المرء بين المؤمن والكافر، وفي علم السياسة يكون الخيار بين الصديق والعدو.

ومشكلة الولايات المتحدة، شأنها في ذلك شأن معظم الدول الغربية الديمقراطية، انها كانت على ما يبدو قد تجاهلت هذه الحقيقة الأساسية في علم السياسة. فالسياسة الأميركية انجرفت بعيداً عن الخيار بين الصديق والعدو واتجهت نحو الاختيار بين وضع يهتم بمصالح جزئية، تدعمها في الغالب جماعات مصالح متنفذة، او وضع أشمل طويل المدى، يتميز في الغالب بمصالح امم يمكن بسهولة التعرف عليها. وفي حالات عديدة اتجهت الخيارات السياسية نحو تفضيل المصالح الجزئية.

لكن السياسات المتحررة الديمقراطية تميل نحو عدم تكوين فكرة مسبقة ونحو ابقاء المجال مفتوحاً للنقاش، وبالتالي استبعاد التمييز بين الصديق والعدو. وقد اعتاد أنصار هذا النوع من السياسات تحاشي النزاع، وفي حالة مواجهتهم لوضع مستحيل فانهم يدعون دائماً لضبط النفس ثم لتشكيل لجنة أخرى تتولى التوصل لتسوية.

وهذا بالتالي قد يكون هو الذي جعل العديد من الناس في انحاء العالم مقتنعين بأن الولايات المتحدة لا تعترف بالصديق ولا بالعدو، وان اهتمامها منصب أساساً على مصالح مادية قصيرة المدى. ومثل هذا المفهوم يحرم الولايات المتحدة من السلطة الأخلاقية التي قد تحتاجها أية قوة عظمى وهي تقوم بدور قيادي في الساحة الدولية.

اما أنصار الواقعية السياسية التقليديون، فهم بطبيعة الحال، لا يحتفظون بأصدقاء او بأعداء دائمين، ذلك استناداً الى ان على الدول ان تهتم فقط بمصالحها الدائمة. وبالفعل فان الأصدقاء، كما قال شكسبير قد يفقدون بريقهم، والأعداء، كما طرح ميكيافيلي، قد يصبحون أصدقاء. على ان مشكلة الواقعية السياسية، تكمن في ان الافتراض الأساسي الذي تطرحه، والذي يقول ان المصالح القومية لا تتغير، يعد منقوصاً. فخلال عام 1956 وصف رئيس الوزراء البريطاني انطوني ايدن قضية السيطرة على قناة السويس بأنها «مصلحة قومية هامة ودائمة» لبريطانيا العظمى. وبعد عقد لاحق من الزمن أطلق الرئيس الاميركي ليندون جونسون نفس الشعار فيما يخص حماية فيتنام الجنوبية. وهو ما يدفعنا الآن للقول بأن الرجلين لم يكونا على ما يبدو حكيمين.

واتباع سياسة تستند الى خيار الصديق ام العدو لا يعني التخلي عن مصالح الأمة المادية، فالحاجة للأسواق، ولمصادر المواد الخام، وللأمن وللترتيبات الدبلوماسية تستوجب وجود تحالفات مؤقتة قد تضم أنظمة متعددة، والمهم هنا، على اية حال، هو ان توضع في الاعتبار مسألة ان المصالح، هي الأخرى، يمكن ان تتغير، وانها تتغير بالفعل، وان يتم وضع خط فاصل بين الأصدقاء والحلفاء المؤقتين او الشركاء التجاريين.

فالتحالفات والشراكات يمكن ان تستند الى المصالح المشتركة التي غالباً ما تكون ذات طبيعة قصيرة المدى. ويمكننا ان نتذكر كيف ان الولايات المتحدة تحالفت مع روسيا التي كان يحكمها ستالين، لمواجهة المانيا النازية واليابان العسكرية بين عامي 1941 و1945.

والصداقة على أية حال لا تبنى على أساس المصالح المادية فقط وعلى أساس القيمة والمبادئ المشتركة والضرورية، وعلى رؤية مشتركة للعالم. وهذا لا يعني ان الطيور التي لديها نفس الريش فقط يمكنها ان تطير معاً في عالم السياسات الانسانية. وفي الواقع فان على الأصدقاء، وهم في أفضل الحالات يقومون بذلك على الأرجح، ان يقدروا مشاعر بعضهم البعض.

فالأصدقاء، سواء كانوا في الحياة الخاصة او في عالم السياسة الدولية، ليسوا بحاجة للتفكير بنفس الطريقة ولتبني نفس السلوك تجاه جميع القضايا وفي كل الأوقات. وفي الحقيقة، يمكن لدرجة من الاختلاف، في الذوق وفي المظهر على الأقل، ان تشكل عنصراً لاستقرار الصداقة.

وهذا قد يجعل تأكيد الرئيس جورج دبليو بوش بأن جميع دول العالم «اما ان تكون معنا أو مع الارهابيين»، مثيراً للارتباك، اذا لم نقل عملاً متهوراً، فقد يكون معظم اصدقاء اميركا المخلصين مع الولايات المتحدة في حربها ضد الارهاب، لكنهم قد يختلفون مع الأساليب التي تتبعها او مع توقيت اجراءاتها.

مع قيام الولايات المتحدة بتشكيل رؤيتها الجديدة للعالم، عليها ألا تقع ضحية اصدقاء زائفين او ان لا تعتبر اولئك الذين قد يتبنون وجهة نظر مختلفة بشأن هذه القضية او تلك اعداء. فالنفاق ليس دليلاً على الصداقة، كما ان النقد البناء لا يشير الى مشاعر العداء.