رؤية للنفق الفلسطيني الإسرائيلي... من دون مزايدة

TT

في اغلب الاحيان يصدق المثل القائل «صاحب البيت أدرى بالذي فيه»، مع ان كثيرين من «اهل البيت» يكونون احياناً اشبه بضيوف على بيوتهم، او تكون معاناتهم المفرطة ولدت عندهم نوعاً من الانكار الدفاعي او التجاهل المتعمد لما يحيط بهم. وهذه حالة مألوفة جداً عند من يصاب بمرض عضال او تلم به كارثة.

واليوم اعتقد ان على اي مراقب عربي الاقرار بأن القضية الفلسطينية محشورة داخل نفق مظلم يكاد لا يبدو بصيص نور في نهايته. كذلك أزعم ان كثرة من المراقبين والمحللين تتفق على معظم الاسباب المؤدية الى هذا الانحشار في النفق. واخيراً، أؤكد واثقاً ان احداً لا يعاني من هذا الوضع المأساوي كالمواطن الفلسطيني العادي.

هناك اتفاق عريض على كل ما سبق، لكن باب الاختلاف مشرع على صعيدين: الاول هو ما الذي يجب عمله ازاء ما هو حاصل، والثاني هو اذا كان يحق للفلسطينيين ـ المعنيين مباشرة بالأزمة ـ اتهام الآخرين بـ«المزايدة» اذا اعتبر هؤلاء بعض الطروحات الفلسطينية تفريطية او استسلامية او مغالية في الاعتدال وفي افتراض حسن النية عند الجانب الآخر.

والواقع انني اتحرّج جداً من ان يتهمني احد بالمزايدة، وبخاصة نفر من الاصدقاء الفلسطينيين «المعتدلين». غير انني في ما يلي سأحاول الدفاع عن وجهة نظر، احسب وعلى الله الاتكال، ان فيها شيئاً من المبرّرات الوجيهة.

فقبل يومين تلقيت رسالة من صديق فلسطيني مهتم جداً بمسألتي السلام وحقوق الانسان وناشط جداً في الحوارات الهادفة الى بناء الثقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، يستمزجني رأيي في نشرها. وفي هذه الرسالة تركيز نبيل جداً على شجاعة أم اسرائيلية نشطت من أجل السلام بعدما فقدت ابنتها في احدى العمليات الفدائية الفلسطينية. وحملت الرسالة انتقادات شديدة ومؤثرة كتبتها هذه الأم الاسرائيلية، مع دعوات لطي صفحة العنف تغليباً لارادة الحياة والتعايش على سياسة صنع الموت. وبطبيعة الحال، انا كصحافي لا أستسيغ «الرقابة» بقدر ما اتحاشى المزايدة. لكنني بعدما فكّرت بما يحيط بالرسالة من مناخ «ساخن» قرّرت مصارحة الصديق بأنني لو كنت المسؤول المخوّل باجازة نشرها... لما أجزت.

بداية، من المؤكد ان هذه الأم الاسرائيلية الشجاعة تستحق كل العطف والتأييد والتشجيع. فمصابها أليم، وابنتها من الضحايا الابرياء الذين يسقطون يومياً فوق تراب من دون ان يستشاروا حول مصيرهم، ناهيك من صدق شعارات زعمائهم وسمو مواقف هؤلاء الزعماء. غير ان اطلاق اي تحرّك شعبي يهدف الى التغيير يفترض وجود أسس صلبة تغذيها قناعات واضحة وراسخة. والدموع او التمنيات او الشتائم وحدها ـ او مجتمعة ـ اسلحة عقيمة عاجزة عن تهيئة الارضية الصالحة لتفاهم في العمق بين الجهات المعنية صميمياً بلب الأزمة.

ان نبل أم مفجوعة وتحرّكها خطوة ضرورية لكنها ـ في حسابات السياسة الواقعية ـ غير كافية لبناء قوة دفع عند الجانب الاضعف في المعادلة... لتقبّل ما يطالبه به الجانب الأقوى.

نعم، نيات الأم المفجوعة طيبة. لكن ـ على الأقل ـ في عالم السياسة ليست «الاعمال بالنيات».. ولن يكون هناك أي أمل بالتغيير ما لم تترجم هذه المشاعر الى «حملة» في الشارع الاسرائيلي تكسر الحصار المفروض على قوى السلام، والى ««تنظيم» مطلبي ديناميكي ومتحرك لديه كل الاجابات على اي سؤال يتعلّق بمستقبل الحالة الفلسطينية الاسرائيلية.

اوافق على ان اموراً كثيرة مطلوبة من الفلسطينيين شعباً وقيادة وتنظيمات. واوافق على أن الشعب الفلسطيني، بعد عقود من الاستلاب والقهر والكبت والحنق، صار ميالاً لرد الفعل السريع والمتسرّع، والكيدي احياناً... وهذه حقيقة لا بد من الاعتراف بها. واوافق ايضاً على ان القيادة الفلسطينية أخفقت مراراً في التحوّل من «الحركة الثورية» الى «المؤسسة السياسية» التي ترى لها مصلحة اساسية في زرع مبادئ الديمقراطية بأرض حرمت طويلاً من نعمة المساءلة والجدل الحر الرّصين المفضي الى نتيجة. بل على العكس تماماً، اثبتت هذه القيادة بمرور الايام انها تشرّبت معظم سلبيات الجو العام المحيط بالشارع الفلسطيني سواء في الداخل أو الشتات ...من دون ان تطوّر ايجابيات تشجع ذلك الشارع على تنميتها والعيش بموجبها. اي باختصار اضحت «السلطة» بما تتهم به من فساد وديماغوجية وتهوّر وسوء تصرف وقصور في الرؤية... تجسد اسوأ السلبيات الفلسطينية، فما عادت القدوة الصالحة للاحتفاظ بشرعية القيادة.

وهنا يمكن القول انه بغض النظر عن هشاشة صيغة «سلام اوسلو» والتفاهم «الفوقي» المتبلور حولها، ومن ثم «لاءات» ايهود باراك الخمس بعد انتخابه لرئاسة الحكومة، سمح المواطن الفلسطيني لرموز التطرف الاسرائيلي باستدراجه الى معركة هم الذين اختاروا زمانها ومكانها وسلاحها. لقد اندلعت «انتفاضة الاقصى» لأن مشاعر الضيق والحنق الفلسطيني تفجّرت غضبة حارة ضد زيارة آرييل شارون الى الحرم القدسي، مع ان الفلسطينيين شعباً وقيادة كانوا يدركون ان شارون يتعمّد افتعال مثل هذه الغضبة. وحتى عندما اندلعت «الانتفاضة» ـ ولعل اندلاعها كان محتوماً طال الزمان او قصر ـ ظل الحكم الاسرائيلي الجانب الأقدر على التحكم بوتيرتها واستغلال جنوحها المرة تلو المرة نحو مستوى اعلى من العنف وذلك لتبرير ما هو اكثر من مجرد القمع. وفعلاً نراه برّر للعالم بأسره ـ وهذا حتى قبل احداث 11 سبتمبر (ايلول) ـ ليس فقط التراجع عن كل تعهدات اوسلو... بل ايضاً السعي الدؤوب لنسف وجود السلطة الفلسطينية ذاتها.

ثم خلال الاشهر الفائتة، لاحت فرصٌ للفلسطينيين لاستعادة شيء من زمام المبادرة، آخرها منع شارون الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من التوجه الى بيت لحم. لكن عرفات ارتكب خطأ تكتيكياً قاتلاً بتراجعه في اللحظة الاخيرة، فأنقذ شارون من هاوية كان تطرفه الفاشي قد دفعه اليها.

خلاصة القول، ان الفلسطينيين ملومون حتماً في عدة تصرفات ساقتهم الى النفق المظلم، لكن هذا لا يعني، ان عليهم ارتكاب مزيد من الاخطاء في محاولاتهم الخروج منه. وهنا... في مثل هذه اللحظات الحرجة في تواريخ الشعوب تظهر القيادات الملهمة التي تستحق وصفها بـ«التاريخية».

ذلك ان الاستسلام سهل والانتحار ايضاً سهل... اما الانجاز الصعب فهو استثمار الظروف المعاكسة لخلق ثورة في النهج والتفكير تسير نحو خدمة الغايات النابعة من وجدان الشعب، التي تجمع فئات الشعب عليها، وتلتف حولها، وتعلنها على الملأ.

تنقية هذه الغايات من الشوائب التي لحقت بها فلسطينياً من جراء سوء التصرف، سيرسل رسالة واضحة المعاني الى الشارع الاسرائيلي، وايضاً الى المجتمع الدولي. وهذا هو المطلوب مرحلياً من المعسكر الفلسطيني. اما ما هو مطلوب من المعسكر الاسرائيلي فأكبر وأخطر بكثير.

اولاً، على الاسرائيليين، قيادة وشعباً، ان يقرّروا في ما بينهم، وبصراحة، ما اذا كانوا يريدون «التعايش» أصلاً مع شعوب المنطقة، والتفاعل ايجابياً مع اهلها. وثانياً، ان يقرّروا اذا كانت القوة العسكرية الضاربة وحدها، التي يجسّدها اليوم «حكم جنرالات الجيش»، كفيلة بضمان «التعايش» اذا كان هذا ما اختاروه. وبالتالي على المواطن الاسرائيلي الخروج من «شرنقة» عقدة الاضطهاد والخوف التاريخي للتفكير جدياً بما اذا كان راغباً حقاً بالعيش في مجتمع عسكري وفاشي و«اصولي» توراتي. وثالثاً، على يهود الشتات، من اصحاب النفوذ وصانعي القرارات وجامعي الاموال، التفكير ملياً في عواقب الهروَلة نحو «صراع حضارات» ومصلحة اسرائيل فيها. وهذا أمر غاية في الخطورة بالنظر الى الدور المحوَري الذي تلعبه الشخصيات المؤيدة لاسرائيل و«اللوبيات» الاسرائيلية في الولايات المتحدة واوروبا في تأزيم الخطاب الغربي المنزلق تدريجياً نحو مزيد من المواجهة مع الحضارات والديانات الأخرى. والرهان الأخطر هو على «موقع» اليهودية مستقبلاً في عالم هيمنة أحادية مسيحية، اذا صفى الغرب المسيحي حساباته مع خصومه.

انا واثق من ان مئات الملايين من المسيحيين يرفضون «صراع الحضارات»، تماماً كثقتي بأن هناك الاف الاسرائيليين المخلصين في طلب السلام. الا ان على هؤلاء الاسرائيليين الخروج من مخابئهم والتصدي الآن لانحدار اسرائيل نحو الفاشية والانفجار الداخلي وتهريب المسؤولية الى الخصوم. فقط عندما يحصل هذا، سيتحرك الشارع الفلسطيني. واعتقد ان هذا الشارع سيتجاوب باعادة بناء مؤسساته وتنقية قيادته... بعدما «يرتاح» من هاجس ضرورة المحافظة على الوحدة الداخلية الضرورية في وجه خطر الالغاء الذي يشكله الاحتلال.