قيس وليلى يغسلان أقدام روميو وجوليات!

TT

علاقة الانسان بالحقيقة تشبه، الى حد كبير، علاقتنا بتلك السمكة السابحة في بحرها، بكل ثقة وغرور. ولا أحد يستطيع كبح جماح هذه الثقة، أو القبض على شحنة الغرور، الا صياد ماهر، تمرس سبل إيقاع الاسماك، في غرام شباكه. ويشبه الصياد، كثيرا، المبدع والمفكر، وهما يقومان برحلة صيد، للحظات الدهشة الخالدة وللأفكار، التي تنبثق من ضوء سحري، يجمع بين قوة الوعي المتدفق، وبين انهمار حالة من الإلهام، على شاكلة زخات مطر اكتفت بآخر الليل كموعد سري للسقوط. لذلك، فان كثيرا من الكلام ومن الأفكار ومن الأطروحات ومن الايديولوجيات ومن البيانات، يولد ليحقق وجودا موازيا للحقيقة، ومتكونا من نقيض الحقيقة نفسها، ومن أنقاضها، وحتى أشلائها. ومثل هذه السياسات الفكرية ليست بالجديدة على الفكر الانساني، لا سيما أن الصراع كسمة من سمات الوجود الانساني، يتطلب سلسلة من الاستراتيجيات، التي عادة ما يرتبط مصيرها، باللحظة الراهنة أي تلك اللحظة التي ترفض الحقيقة اقامة علاقة معها، مستبدلة اللحظة الأبدية بها، والتي تحيك الزمن الأبدي للمعرفة الانسانية عموما. الا أن الكم الهائل من القرون، ومن العقود، ومن السنوات، التي عاشتها الانسانية، برهن على أن الاحتكام للراهن، وللمصلحة الآنية لا يقدمان سوى الحلول الوهمية، والقصيرة المدى. ونفس هذه التجربة أكدت، أن الدمغجة بأنواعها المتعددة، لا تصنع مستقبلا، بقدر ما تخلق وضعيات ادمان على اللا حقيقة، مما يجعلنا عرضة لصداع تعرف الرأس فيه مختلف الأوجاع. من هذه الأوجاع الكثيرة، التي تئن منها عقولنا نذكر النقاشات المتعلقة بعلاقة الأنا والآخر وكيفية الحوار بين هذين القطبين. وهو صداع، أرغمنا على تحمل تصدعاته منذ اندلاع حرب الخليج الأولى، تلك الحرب التي جعلت العالم العربي في مواجهة حقيقية مع العالم الغربي، فتدخل بعض الأخوة المصلحون، لفك المتنازعين من أذرعة بعضهما البعض، وذلك من خلال اقتراح جملة من وصفات التسامح والتصالح.

وبعد مرور سنوات قليلة على تاريخ حرب الخليج، انقطع الحديث عن هذه الوصفات، وخلد المصلحون الى نوم سرعان ما استفاقوا منه في صباح 11 سبتمبر الماضي، حيث استعادوا الدور، والميدعة البيضاء، كأطباء يكرسون جهودهم، لايقاف أي نزيف يصاب به جسد الحضارتين: الشرق والغرب.

وهؤلاء الأطباء، عادة ما يلبون نداء توجهات سياسية، تابعة لبلدانهم، اذ لا يكفي الاعلان الرسمي عن نبذ الارهاب، بل لا بد من تعضيد هذا الاعلان بتحركات فكرية ثقافية تمجد الحوار، وتقدس التسامح. وفي مثل هذه المواقف يبرز بوضوح التكاتف السياسي الثقافي، وجملة الخدمات القصيرة المدى، التي يمكن لسياسة ثقافية أن تقدمها لجلالة فن الممكن.

طبعا اثارة علاقة الأنا والآخر على المنوال الحاصل اليوم في المشاهد الثقافية العربية لا يمكن ادراجه، الا ضمن الاثارة المحدودة الخدمة، بمعنى أن استحضار البعد السياسي وتوظيفه في بحر سؤال حضاري وثقافي عميق وشاسع، سيسقطان نقطة الاستفهام الحقيقية في منعطفات اللا معنى، والمجانية الفكرية.

وبعيدا عن الآثار العقيمة للتوظيف السياسي المحضي، لسؤال خطير وحيوي على المستوى المستقبلي والعالمي، نجد أن الحارسين العرب لعلاقة الأنا والآخر، يمعنون في جلد الأنا، وفي تحميلها مسؤولية كل العقبات تعكر حوار الأنا مع الآخر.

وفي مقابل هذا الجلد، يحرص نفس الجلادين على التغزل بالآخر وبتقديم قصائد غزل في لغته، وفي حضارته، وفي تمدنه، وفي أنموذجيته، التي فاقت العقل وتصوراته، فيتحدثون عن التسامح، متجاوزين أي ذكر للخصومة كشرط سابق لأي تسامح ممكن، ودون وقوع في المحظور، الذي وقع «المصلحون» الجدد فيه، اذ لا ننوي استبدال الغزل بالجلد ولا المدح بالتقريع ـ أقصى درجات اللوم ـ بقدر ما نطمح للوصول الى مقاربة موضوعية فان الدمغجة المعتمدة في معالجة سؤال علاقة الأنا بالآخر لن تنتج حوارا بين الحضارتين المقصودتين، بل أن كل ما يمكن أن توفره لنا، هو اقامة الدليل على حدوث «فبركة» في السؤال والاعتماد على صياغة خاطئة، لا نعلم اذا كان الخطأ فيها وليد سوء فهم أو وليد عملية تحويل وجهة الحقيقة.

وما نريد أن نتوقف عنده تحديدا، هو تهمة انعدام التطفل المعرفي ازاء الآخر، تلك التهمة التي تنتسب في حقيقتها الى منظومة الآخر وليس الى «الأنا»، التي يشهد تاريخها الثقافي بتفتحها على ثقافات من حولها. وكي لا نبقى كالعادة أسيري براهين ماضية، فان حاضرنا الثقافي يؤكد لنا امتلاك المبدع العربي لكثير من الفضول ومن المغامرة ولجسارته في خوض تجارب بعيدة الصلة عن مقومات الثقافة العربية الحاصلة.

فهل يوجد فضول أكبر، من استبدال العرب الرواية كأدب من آداب الآخر بديوانهم الشعري؟ دون أن ننسى طبعا الحروب الضروس التي عاشها كثير من الشعراء العرب المعاصرين عندما طلقوا قصيدة امرئ القيس وأعلنوا عشقهم لقصيدة بودلير فاذا بأغلب شعراء اليوم ينتمون الى مدرسة قصيدة النثر، ويحاولون بناء مجد شعري يقوم على أطلال الوزن والقافية. بالاضافة الى أن معظم المسرحيين العرب، اليوم تجاوبوا بوعي جمالي فريد في نوعه، مع تقنيات المسرح الجديد، فانغمسوا في التجريب كما ينغمس الرومانسي في أحلام يقظته. وفي مجالات الفكر والنقد لا حديث في الندوات ولا استشهاد في الدراسات الا بأعلام الحداثة الفكرية الغربية، ولم نتأخر عن احتضان آباء جدد لنا فصار رولان بارت تمثالا من تماثيلنا وبروست ورامبو وغوته وشكسبير وبودلير ونيتشه وماركس وسارتر وهيغل وآخرون كثيرون أحباء لنا لا نمل من حبهم. لم يبق لنا الا أن نستبدل روميو بقيس وجوليات بليلى.

فهل بعد هذا الفضول، مزيد من الفضول. واذا كان المقصود بالفضول، هو غسل قدمي الآخر كما يجب أن تفعل أي جارية مهذبة، فان حتى فضول الأقدام قد قام به بعض الاخوة السينمائيين العرب الذين صنعوا لنا صورة كما يرتضيها المنفق الأول على السينما في العالم ولم يتأخر هؤلاء الباعة المتجولون في بيع عيونهم الى الآخر وجعلها تبصر ما تريده لنا من خير التأخر والتراجع والتخلف.

واذا تجاوزنا وجدانيات علاقة بعض مثقفي الغرب مع ثقافة الشرق، وحاولنا أن نستقرئ واقع الصورة الملتقطة للعرب في قنوات المعرفة الرسمية للغرب، ربما، سنمسك بكواليس هذه العلاقة التي تشكو من ثرثرة ومن سكوت رهيب في نفس الوقت. ولعله يجدر بنا في هذا السياق، أن نلقي نظرة ولو بسيطة وعابرة على دراسة أعدتها اللبنانية مارلين نصر حول صورة العرب والاسلام في الكتب المدرسية الفرنسية وقدمتها في ندوة «صورة الآخر، الوعي ناظرا ومنظورا اليه»، التي أقيمت في شهر مارس عام 1993 بتونس، وفي هذه المداخلة أبرزت الباحثة أن السمتين البارزتين في مجموعة السمات التي تخص العرب هما: الماضوية، وتجنب العرب في الزمن الحاضر لذلك فان كل مقتطفات الأدب الفرنسي ذات الموضوع العربي، تجري أحداثها، إما في زمن استعماري ماض، وإما في زمن أسطوري غير محدد.

وتضيف الباحثة في دراستها، أن المؤلفين يستخدمون تعبير «الأراضي المقدسة» ولا يشيرون الى أن الأمر يتعلق بفلسطين مع تجنب استعمال مفردة «العالم العربي». هذا، وتوقفت مارلين نصر، عند شبه الاجماع بين المؤلفين الذين وضعوا سمات للحضارة الاسلامية، وهي أن الاسلام دين القواعد والخضوع والتأكيد أن تاريخ الحضارة الاسلامية هو تاريخ لانقسامات مستمرة، وكيف أن المدنية والفنون غير متوافقة مع «العروبة»، وان المجتمع الاسلامي، مجتمع عبودي. ان هذه الاستنتاجات، وغيرها كثير، توضح أن الآخر متورط في مؤامرات كثيرة دبرها ضد الحضارة العربية ويكفي أن يكون العدو الصهيوني منتشر الوجود في اقتصادات الآخر وسياساته، حتى لا نستبعد ـ على الأقل ـ أمر وقوع مثل هذه المؤمرات.

يبدو أننا أنفقنا جهدا ومالا وتفكيرا وعضلات كثيرة، في طرح سؤال لم تستقم رغم مرور السنوات نقطة استفهامه، اذ أن عالم الأنا هو الجدير بالدرس وبالنقاش، وخاصة علاقة «الأنا» بالحضارة الراهنة التي تعيش اليوم فيها وفي هوامشها. وليس المقصود بالدرس هو التفكير في كيفية اللحاق بركب الحضارة، بل المقصود هو صنع مركبة جديدة نستدين خشبها منا ومن الآخر ثم نمتطيها في بحر، عواصفه لا تفرق بين مركبة وأخرى الا بالجهد وبالمثابرة، اذ الحضارة عقد لا نهاية لحباته، وان عاشت الانفراط. يقول غوته في مسرحية فاوست:

من يعرف نفسه وغيره سيعرف هنا أيضا أن الشرق والغرب لن يفترقا أبدا وبودي أن أتأرجح بفكر متفتح بين هذين العالمين فالتحرك بين الشرق والغرب هو الأفضل.

* كاتبة وشاعرة تونسية [email protected]