أضواء على المقاومة الشعبية في مصر

TT

صفحات بعض الأيام التي كانت عامرة بالأحداث الوطنية والقومية لا يجوز أن تطوى دون تسليط الضوء عليها. خاصة ذكرى الأيام التي غيرت مسار التاريخ.. وفي مصر كان يوم 25 يناير (كانون الثاني) 1952 علامة بارزة من علامات المقاومة الشعبية للاحتلال البريطاني نسترجعها اليوم بعد نصف قرن.

والمقاومة الشعبية للاحتلال بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وشملت جميع الطوائف بمن فيهم ضباط البوليس.. ثم توقفت بعد اعلان الأحكام العرفية وفتح المعتقلات مع قيام حرب فلسطين في مايو (ايار) 1948 ولكنها سرعان ماعادت بعد توقيع اتفاقية الهدنة وانتهاء الحرب. ووصول الوفد إلى الحكم الذي استجاب للارادة الشعبية بالغاء المعاهدة عندما أعلن مصطفى النحاس رئيس الوزراء ورئيس الوفد كلمته التاريخية يوم 8 أكتوبر (ايار) 1951 أمام مجلس النواب وهو نفس اليوم الذي أقال فيه الملك الوزارة الوفدية يوم 8 أكتوبر 1944 اليوم التالي مباشرة لتوقيع ميثاق الجامعة العربية في الاسكندرية والتي قال فيها (من أجل مصر أبرمت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بالغائها).

كان الغاء المعاهدة اعلاناً ببدء الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية المحتلة لمنطقة قناة السويس. وهو كفاح شاركت فيه الحكومة الوفدية إلى جانب التنظيمات الشعبية.. إذ أصدرت تشريعاً بسجن كل عامل مصري يعمل في القاعدة البريطانية مما أدى إلى بطالة عدد يتراوح بين 40 و50 ألف عامل، أصدرت الحكومة تعليماتها بصرف مرتباتهم وتوفير أعمال أخرى لهم خارج منطقة القناة.. كما أصدرت قراراً وزارياً بمنع السكة الحديد من نقل أي مهمات للقاعدة البريطانية، وصدر تشريع بمعاقبة كل من يتعاون مع القوات البريطانية بالسجن.

وهكذا تجاوبت الحكومة الوفدية مع الارادة الشعبية بصورة مثالية، وصلت إلى حد امداد الحكومة للفدائيين بسلاح كانت تشتريه لهم، وتشجيعها لرجال البوليس بالمشاركة مع الفدائيين.

ولم يكن الضباط الأحرار في الجيش بعيدين عن معركة الكفاح المسلح في القناة. فقد أرسل جمال عبد الناصر مندوبين عنه لمقابلة فؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية وهما قائد الجناح وجيه أباظة والبكباشي (مقدم) أحمد نور للتنسيق مع الاحتفاظ بالسرية الكاملة لتنظيم الضباط الأحرار.

وأذكر أنني ذهبت مع جمال عبد الناصر في عربته الأوستن السوداء الصغيرة إلى سلاح خدمة الجيش في ثكنات العباسية حيث ملأ العربة ذخيرة وأسلحة وقنابل يدوية من اليوزباشي مجدي حسنين الضابط في السلاح.. وذهبنا في العربة إلى منزل زميل آخر هو الصاغ عثمان فوزي الذي أصبح سفيراً فيما بعد الذي نقل حمولة السلاح إلى عربته الخاصة وسافرنا بها فجراً إلى قرية (القرين) بالشرقية حيث سلمنا الحمولة للفدائيين بعد تدريبهم على استخدامها.

وكانت بعض التنظيمات والأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار قد شكلت مجموعات فدائية جمعت في صفوفها شباباً من مختلف الاتجاهات.. وكان دور الحكومة الوفدية واضحاً في تشجيع الفدائيين إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لا يضيع من ذاكرة التاريخ 25 يناير عندما حاصر آلاف الجنود البريطانيين ومعهم المصفحات والدبابات مبنى محافظة الاسماعيلية وأرسل الجنرال اكسهام القائد البريطاني بالمنطقة انذاراً لقوات البوليس المصري بمحافظة الاسماعيلية بتسليم أسلحتها والخروج من المحافظة والثكنات والرحيل عن منطقة القناة كلها.

وجد القائد المصري نفسه أمام احتمالين كلاهما صعب، تسليم السلاح أو المقاومة مع فارق العدد والعدة. وأراد أن يستطلع رأي فؤاد سراج الدين وزير الداخلية فأرسل ضابطاً صغيراً قفز من فوق السور ليتصل به بعد أن كان الانجليز قد قطعوا أسلاك التليفون عن المحافظة.

تمت المكالمة في الثانية بعد منتصف الليل وكان فؤاد سراج الدين نائماً وعندما استيقظ وجد نفسه مضطراً لاعطاء قرار فسأل الضابط عما إذا كانوا مستعدين للمقاومة حتى آخر طلقة ولما أجاب الضباط بالايجاب أعطى فؤاد سراج الدين قراره بالمقاومة، ثم وضع السماعة وهو يبكي.

ودخل الجنرال اكسهام مبنى المحافظة وصافح قائد القوة المصرية قائلاً له (أهنئك وأهنئ جنودك على الروح التي قاتلتم بها، ولذا فلن أعاملكم كأسرى حرب، ولن تخرجوا من هنا رافعي الأيدي).

ورحل جنود بلوكات نظام الاسماعيلية في عربات السكة الحديد إلى القاهرة، وعندما أذيعت الأخبار كانت لها ضجة عالمية.. وظهرت صحف انجلترا يوم 26 يناير وقد كتبت (أنها تخجل لأن الجيش البريطاني يحارب البوليس المصري).

وتحركت في القاهرة منذ الصباح الباكر دوامة من المظاهرات لا تهدأ ولا تتوقف وكان جنود بلوكات النظام في ثكنات العباسية قد خرجوا بأسلحتهم في السادسة صباحاً في مظاهرة صاخبة احتجاجاً على ما أصاب زملاءهم في الاسماعيلية، واتجهوا إلى جامعة فؤاد بالجيزة حيث اختلطوا بالطلبة المتظاهرين، وتحركت الحشود المشتركة تنادي بحمل السلام والسفر لمحاربة الانجليز، وتهتف أمام قصر عابدين بسقوط الملك.

وانتقلت مظاهرات هذا اليوم بعد ذلك إلى مرحلة جديدة مشبوهة هي حرق سينما ريفولي ثم سينما مترو ثم نادي (الترف كلوب) البريطاني الذي اشتعل بمن فيه، وتلاحقت الحرائق في المتاجر الكبيرة والفنادق حتى شملت 300 متجر وفندق شبرد ومترو بولوتيان، وعشرات من الحانات والبارات ومعارض السيارات وبنك باركليز البريطاني وغيرها مما حول وسط القاهرة إلى شعلة من النيران.

ومع بداية هذه المرحلة المثيرة كان 600 من ضباط الجيش والبوليس يتوافدون بالمئات على سراي عابدين لحضور مأدبة غداء ابتهاجاً بمولد (حضرة صاحب السمو الملكي الأمير أحمد فؤاد ولي العهد).

وحاول فؤاد سراج الدين الاستعانة بقوات الجيش لمقاومة حريق القاهرة ولكن لم يتحقق ذلك إلا بعد الخامسة مساء لأن الملك كان قد دعا 600 ضابط لتناول الغداء في قصر عابدين ابتهاجاً بمرور أسبوع على ولادة ولي العهد بعد أن كانت القاهرة قد احترقت ، وأعلنت الأحكام العرفية وأقيلت وزارة الوفد.

ولكن الأمور لم تستكن إلى هذا الوضع الشاذ فقد تشكلت أربع وزارات من أحزاب الأقلية خلال ستة شهور .. ثم انبعثت ثورة 23 يوليو لتحقق انتصاراً للارادة الشعبية.

وهذه قصة أخرى.