الغرب واستثمار كوارثه ومصائبه

TT

إذا استرجعنا أواخر أحداث سنة 2001، قد نتساءل: هل الخسائر المادية الملازمة، دائماً، للحملات العسكرية مواكبة للأهداف الاستراتيجية والتكتيكية للحملة على أفغانستان؟ وهل هي على وتيرة مع الأهداف السياسية لأمريكا خاصة، والغرب عامة؟

هذه التساؤلات توضح أن ثمة اختلافا بين الأهداف الاستراتيجية السياسية والأهداف الموضوعة للحملة العسكرية المنبثقة عن الأهداف السياسية.

فإذا قارنا التكلفة المادية والمعنوية، من تحضير وتدريب وتنفيذ لهذه الحملة، بالأهداف العسكرية التي تتمحور في تدمير منظمة القاعدة، واعتقال أو قتل محاربيها ورؤسائها ومديريها، والقضاء على سيطرة حكومة طالبان في أفغانستان، وملاحقة التنظيمات المساندة للقاعدة والمنتشرة في العالم (وإن كانت هذه ليست عمليات عسكرية صرفة)، وجدنا عدم تكافؤ بين العمليات وخسائرها المالية آخذين بالاعتبار ما تم نشره من تكلفة بين 100 و150 مليون دولار يومياً. وبتمركز القوات البحرية منها والجوية ومشاة البحرية (المارينز) وأخيراً تجهيز الجيش الأمريكي لإنزال الفرقة 101 المجولقة (محمولة جواً) وما ينتج عادة من رفع درجات الاستعداد وتأثيراتها المعنوية وضخامة التحضيرات لها من تدريب وتخزين وتصنيع.

إذا كيف تم الاتفاق بين الكونغرس الأمريكي والرئاسة الأمريكية، على الموافقة على هذه الميزانية الضخمة وغير محدودة التوقيت؟ خاصة أن الكونغرس الأمريكي يتميز بتمحيص وتدقيق جميع الأمور قبل الموافقة عليها. هنا يكمن بيت القصيد، بأن هناك أهدافاً أخرى استراتيجية وتكتيكية منبثقة عن أهداف سياسية شاملة عالمية وإقليمية.

من هذه النظرة يجب أن نحدد الاستراتيجية الأمريكية العليا مبنية على طريقة الهندسة العكسية Reverse Engineering، منطلقة من المكاسب الاستراتيجية الداخلية (من منظور الحزب الجمهوري) والعالمية.

* المستوى الداخلي

* نبدأ هنا من الاستراتيجية الداخلية للحزب الجمهوري وعلى رأسه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ومنها:

ـ التوجه الجمهوري لبناء القوة العسكرية ومؤسساتها: هذا الاتجاه يلقى، دائماً، معارضة شرسة من قبل الحزب الديمقراطي، الذي عادة يركز إنفاقه في الأمور الاجتماعية، وتقليص الإنفاق الحكومي. ولقد استثمر الرئيس الأمريكي أوضاع 11 سبتمبر خير استثمار للجم المعارضة الديمقراطية، ورفع حجم الانفاق العسكري والمكاسب للشركات المصنعة بذريعة محاربة الإرهاب، واستغلال الشعور الوطني المتزايد في المجتمع الأمريكي، الذي جعل محاربة هذا الانفاق ملتصقاً بعدم الوطنية.

ـ تمرير البرامج التنفيذية: لقد ورث الرئيس الأمريكي اقتصاداً متدنياً نسبياً، واستخدم تأثير الإرهاب كورقة في حالة تدهور الوضع الاقتصادي ولتمرير برامج الجهة التنفيذية (الرئاسة) من الجهة التشريعية (الكونغرس) من دون معارضة فعالة.

ـ تعزيز الرأي الداخلي في مصلحة الحزب: دائماً يتم تلاحم الشعب مع الرئاسة في الأزمات، مما حدا بالحزب الجمهوري، وعلى رأسه الرئيس، إلى انتهاز الوضع لكسب المساندة الشعبية، حيث بلغت أوجها في يوم الأربعاء 2 يناير 2002 (%78 مؤيد للدور الذي يقوم به الرئيس)، بناء على ما بثته CNN.

أما من الناحية العالمية، فبناء الاستراتيجية لأي دولة يجب أن يخضع لأمور تختلف عن الاستراتيجية الداخلية، وأهمها المصالح الدولية. فعندما تتضارب مصالح دول لها مكانتها وقوتها، سواء اقتصادية أو عسكرية أو كلاهما، تنبثق تنازلات من قبل الجهتين، أما إذا كان هناك عدم تكافؤ في القوى، فإن الدولة القوية دائماً تفرض متطلباتها. لذا فإن اضعاف الجهة المعارضة بأمور، منها التحالف أو الاتفاق الاستراتيجي مع جهة ثالثة أو أكثر، أو البحث عن بدائل لمصادر القوة للدولة المناهضة، تعتبر أهدافاً رئيسية.

* الاستراتيجية الخارجية

* لننتقل إلى الاستراتيجية الخارجية المستنتجة من المصالح المتوقعة لأمريكا ومنها:

ـ استخدام المبادئ والمفاهيم الغربية للتعبير عن القيم العصرية ومناهضتها للإرهاب واستخدامها في التدخل عالمياً ومنها التعريف بالإرهاب.

ـ التفاهم الأوروبي الأمريكي الروسي: لقد كان العالم في توازن بفضل وجود قطبي التوازن العسكري وارسو Warso وناتو Nato، أو بمعنى آخر الاتحاد السوفياتي من جهة، وأمريكا من جهة أخرى. وقد كانت مساعدات الشرق الأوسط، خاصة الدول العربية لدول جمهوريات آسيا الوسطى والبلقان، مباركة من قبل الغرب وأمريكا. في الآونة الأخيرة بدأ الناتو Nato وروسيا، تبادل الآراء بانبثاق مجموعة تفاهم بينهم لوضع اللمسات لبداية تفاهم استراتيجي عملياتي، وإن كان محدوداً نسبياً، في الوقت الراهن، فيما نجد على المدى الطويل بداية تضييق الخناق على كل جهة تهم بمساعدة تلك الدول.

ـ الغرب ودول آسيا الوسطى: في مقال الكاتب كرستوفر بولين Christopher Bollyn، في 11 أكتوبر 2001، والخاص (بالصحافة الحرة الأمريكية) وضح الكاتب نقاطا مهمة تبين أهمية دول آسيا الوسطى والبلقان للتحالف الغربي، كما أن هذا التحالف سمح لإسرائيل بالدخول من أوسع الأبواب لتبني لها مكاسب اقتصادية وسياسية. يقول الكاتب «لقد كانت خطابات الرئيس بوش نبيلة للكفاح عن الديمقراطية والعدالة، لكنها في الحقيقة تغطي موضوعا أقل نبلاً، وهو الكفاح للسيطرة على ما يقدر بـ 5 تريليونات من مصادر الغاز والزيت في حوض بحر قزوين». ويستمر الكاتب «تقع أفغانستان بين تركمانستان التي تعتبر ثالث أكبر دولة في احتياطي الغاز الطبيعي ودول الأسواق الغنية في شبه القارة الهندية والصين واليابان، وقد وقعت مذكرة تفاهم لبناء أنابيب غاز بطول 900 ميل من تركمانستان إلى باكستان مروراً بأفغانستان، لكن بسبب الحرب الأهلية بأفغانستان وغياب حكومة ثابتة فقد أجل هذا المشروع». هنا تتوضح أهمية أفغانستان لكونها همزة الوصل في هذه المنطقة الحيوية، ونظرا لأهميتها عند الغرب بكل قواه السياسية لوضع حكومة ثابتة ومعترف بها من جميع أطراف النزاع الداخلي ليتمكن من تنفيذ مخططاته الحيوية.

ـ التفاهم الأمني بين دول البلقان وأوروبا: عملت أوروبا على وضع أحكامها وشروطها الأمنية والمعززة بالمساعدات الاقتصادية في إقفال باب الدخول لهذه الدول، استنادا الى اتفاقيات أمنية يبدأ تنفيذها مع بداية عام 2002 بنظام مشترك لجميع دول البلقان في ما يخص الزوار من البلاد العربية والإسلامية، وطلب تأشيرة دخول للاتحاد الأوروبي الذي يحق له، مع الإنتربول منح التأشيرة أو رفضها.

بهذا التفاهم يتم عزل منطقة البلقان عن أي نفوذ إسلامي أو عربي مستقبلا.

ـ تحييد الصين والهند: لقد وجدت أمريكا، والغرب عامة، ضالتها بالإبحار في بحر مكافحة الإرهاب وقوة تأثيره في جميع دول العالم، ووضع إمكانياتها الضخمة في حملاتها الإعلامية (إذا لم تكن معنا فأنت مع الإرهاب)، حيث جعلت من قضية مكافحة الإرهاب خطاً أحمر لا يمكن التغاضي عنه في أي حال من الأحوال. من هذا المنطلق، وجدت الجارتان الكبيرتان، الصين والهند، أن من التهور الدخول في نزاع دفعت دول العالم إلى محاربته، مسيّرة من قبل الحملات الإعلامية الأمريكية والغربية، ووجدت أنه من الحكمة أن يكون موقفهما محايداً لأسباب اقتصادية أساساً مع الأخذ بالاعتبار مراقبة انتشار النفوذ الأمريكي في آسيا وتقارب أمريكا وباكستان بالنسبة للهند.

ـ تفكيك التحالف العقائدي الإسلامي: لم تجد أمريكا، والغرب خاصة، والدول غير الإسلامية عامة، فرصة أفضل من الوقت الراهن، لتفكيك التحالف العقائدي. فقد تم القيام بعمل إجرامي عظيم في 11 سبتمبر باسم الإسلام، وقيام جماعات إرهابية من شرق الأرض وغربها بعمليات باسم الإسلام. وجسد بن لادن والملا عمر كزعيمين إسلاميين من قبل أمريكا والغرب. وتم مزج هذه الأعمال بتعاليم كراهية للغير. وتم التأثير في الرأي العالمي ضد الإسلام والمسلمين. لقد تكونت تحالفات غربية ـ يهودية من أجل وسم العرب خاصة والمسلمين عامة بالارهاب، وإظهار إسرائيل بأنها الدولة الوحيدة التي كانت وما زالت، تحمي مصالح أمريكا والغرب. وكان من أبرز هذه المجموعات مجموعة «ميجا» اليهودية ومن أهم أهداف هذه المجموعة تشويه سمعة أهم دولتين عربيتين إسلاميتين وهما المملكة العربية السعودية ومصر.

هذا ما فعل الغرب لاستثمار كوارثه ومصائبه، فماذا فعلنا نحن؟ لقد كان واضحا ان استغلال واستثمار الغرب لكوارثه لم يأت من فراغ ولا من ارتجالية، لقد بنى الغرب سياسة مؤسساته الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بآليات ترجمة الأهداف إلى عمل ملموس ولم يكتف بالتنظير فقط وهذا صلب قوة الغرب، ولم يتحقق هذا إلا بنضوج مجتمعاته.

* [email protected]