رجولة وأنوثة

TT

قاطعنا يوم التراث عن اكمال ملاحظات اولية حول النساء، نأمل ألا نضطر لتكرارها لكن بقي في الروح فضلة يجب ان تقال وقد اثارتها هذه المرة رسالة من قارئ «حمش» هو الاستاذ ضياء عبد الستار الذي يسأل عن سر ذلك التعصب الابدي لقضية المرأة، ويعتبر ذلك نقطة ضعف، وذاك رأيه وهو حر، ولن يجبرني اتهام أو اثنان على تغيير قناعاتي، لكني اجدها فرصة جديرة بالاغتنام لأوضح الظروف التي تجعلني ألح على قضية المرأة ومساواتها أكثر من غيرها فهي من الناحية الموضوعية أساس تحولات سياسية واجتماعية كثيرة. اما عن الذاتي فهناك الكثير مما يقال، وخصوصا عن البواكير.

ليس شبقا ذاك الذي قادني الى عشق فضاء الانوثة، فقد عرفت ذلك الافق الرحب الحميم الاليف العطوف قبل ان اعرف للشبق اسما وتعلقت به يوم لم اكن املك اللغة والمعرفة لاعطي للرغبة وصفا وكسما. والآن وفيما الايام تحث خطاها وتسحبني معها مسرعة اتأمل عمرا قلقا فأجدني ادين بأجمل ما فيّ وبأفضل ايجابياتي على قلتها لفضاء الانوثة.

وأحار دائما كما حارت الالباب والاقلام في توصيف ذلك الفضاء الذي يعلمك ان تحب الآخرين دون ان تنسى نفسك وتقلم اظافر انانيتك لتجود وتعطي، ثم يدغدغ جبروت الثقة لكنه وبذكاء شديد يلجمك قبل ان تتفرعن ويعطيك بيسراه ابجدية الحنان والتعاطف وباليمنى قاموس التسامح. فتشب كالزنابق معطرا وصداحا وتثب كالفراشات وعينك اثناء جماليات الانتقال من زهرة الى اخرى تقودك دون ان تدري الى اسرار النحل، حيث تتحول رحلة اكتشاف الجمال الى عسل مصفى.

في ذاك الفضاء الذي عشقته طفلا وزاد تعلقي به كهلا حاولت ان ارد الجميل للنساء الرائعات بوضع قلمي في خدمة معركتهن النبيلة ضد القبح والزيف والتوحش الذي يفرخ ظلما وعنفا وعنصرية.

وقبل هذا الهدف المعلن كانت اوديسة النساء تدهشني ورحلتهن الطويلة من الحرملك الى الحرية تثيرني بطولها، وتراكم فصولها وانتقال راياتها من جيل الى آخر بصمت، وسرية واصرار، فأقرأ فصول تلك الاوديسة التاريخية مجزأة واتفرج على فصولها المعاصرة بعين العاشق والمشجع وفي كل مرة اتعجب كيف استطاعت المرأة ان تحافظ على كينونتها كنبع خصب للجمال وسط كل ذلك القمع والكبت وعدم المساواة المتجذرة في القوانين والاخلاق والتقاليد الاجتماعية الجائرة.

وما بين الحرملك الذي لم تغلق قاعاته بعد، والحرية التي تلوح وتغيب كسراب مراوغ، كان الحب وسيظل اقوى اسلحة المرأة ونقطة ضعفها في الوقت ذاته، فسواء كان شبقيا او اخويا او اموميا، فإنه يضعفها ويلهيها في اوقات كثيرة عن نفسها لكنها ـ وهنا روعة فضاء الانوثة ـ تحيل الضعف الى قوة وتراهن دائما على انتصار الحب لقناعتها الدفينة بأنه مركز الكون، ويخضور التجدد والكيمياء السحرية التي تدخل في تركيب جميع معادلات الوجود، لقد كان الحب والحرية والحنان ثالوث النساء المقدس منذ عصر الكهف الى عصر الفضاء ورغم قسوة الحرملك وتعدد اشكاله واختلاف سحن بنائيه ومنظريه وسجانيه ظلت المرأة تغدق الحب، وتفيض بالحنان وتقاتل في سبيل التحرر، والتقدم وتجميل وجه الكون، فهل بعد هذه الخلفيات ونظريات وعواطف البواكير التي تترسخ كالنقش في الحجر أحتاج الى توضيحات اخرى؟

اتمنى ألا يحدث ذلك، وان حدث فإن الحوار عن المرأة وحولها يظل اخف على القلوب من الاحاديث الجافة والثقيلة والمثقلة بالعنف والعدوانية والتي تحضر حكما كلما جرى الحديث عن طبائع الذكور الذين عودتهم السلطة منذ نهايات المجتمع الطوطمي على ذلك النمط من السلوك العدواني الذي ترسخ نتيجة للمفاهيم الخاطئة حول طبيعة الانوثة والرجولة.