تراجع أهمية الانفاق الحكومي الخليجي على نمو القطاعات غير النفطية

TT

لا تخفي حكومات دول الخليج قلقها من اعتماد اقتصادها على النفط كمورد رئيسي ترتبط به بقية القطاعات. ورغم ان العائدات النفطية الحالية توفر لدول مجلس التعاون الخليجي موارد كافية لتغطية نفقات موازناتها، الا ان كون النفط موردا قابلا للنضوب هو مصدر للقلق، يضاف الى ذلك، رغبة تلك الدول بتنويع اقتصادها لايجاد فرص عمل تستوعب الملتحقين الجدد بسوق العمل، والحفاظ على مستوى الخدمات المقدمة. ويكاد يكون شعار تنويع الاقتصاد بعيدا عن النفط هو اكثر الشعارات ترديدا في الندوات والمؤتمرات التي تعقد لبحث فرص المستقبل في دول الخليج.

الا ان تلك الشعارات لم تكن مزودة بدراسات معمقة لبيان طبيعة العلاقة بين القطاعات غير النفطية ونموها ودور الانفاق العام الحكومي، اضافة الى التبعات الاجتماعية والسياسة والاقتصادية التي تترتب على ذلك الامر، وكيف تغيرت تلك العلاقة خلال عقد التسعينات، بظروفه المختلفة، عما كانت عليه خلال عهد الطفرة النفطية في السبعينات وحتى منتصف الثمانينات، والتطور الذي حصل على ذهنية القطاع الخاص لجهة الاعتماد اكثر على مبادرة رأس المال وعدم انتظار العطاءات الحكومية والتفيؤ بظلال المشاريع العامة المضمونة للمستثمر المحلي بموجب القوانين التي ما زال بعض منها ساري المفعول حتى الآن، والتي عطلت، في الكثير من الاحيان، المنافسة المشروعة، وربما يفسر لنا هذا، الدور السياسي المتنامي للقطاع الخاص والدعوات المتكررة لاطلاق يده للقيام بالمزيد من الاصلاحات الاقتصادية الداعية الى تخفيف الاعتماد على الدولة. يجدر الذكر، هنا، ان الدعوة لاصلاحات سياسية، ونظرا لحساسيتها في المنطقة العربية عموما، فانها تمر بالدعوة الصريحة للاصلاح الاقتصادي والتي لا يمكن عزلها عن التغييرات السياسية التي ترافق تلك الدعوات.

ورغم ان دول الخليج اتخذت قرارتها المتعلقة بالانفتاح الاقتصادي بشكل منفرد، اي كل دولة على حدة، مع الاخذ بعين الاعتبار التنسيق بين هذه الدول من خلال الامانة العامة لدول مجلس التعاون، الا انه كان هناك تناغم كبير في السياسات الاقتصادية المتبعة، في تلك الدول، عند النظر اليها ككتلة اقتصادية واحدة. يدعم هذا الاستنتاج قرب اطلاق عملة خليجية واحدة تعبر عما يمكن تسميته بالاتحاد النقدي الذي يعتبر شكلا متقدما على الاتحاد الجمركي، نظرا لطبيعة السياسات التي يجب اتباعها عند اعتماد عملة واحدة من قبل عدة دول، ولنا في تجربة الاتحاد الاوروبي والمدى الزمني الذي اتخذته التجربة دليل على التعقيدات التي ترافق عملية التحول من العملة الوطنية الى عملة اقليمية.

في هذا الاطار اصدر صندوق النقد الدولي، الشهر الماضي دراسة عن دور الانفاق الحكومي في تحقيق النمو في القطاعات غير النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي. وذكرت الدراسة ان هيكلية الانفاق وشكلها اختلفت خلال عقد التسعينات عما كان عليه في الثمانينات، واظهرت ان الانفاق الحكومي، خلال السنوات القليلة الماضية، لم يعد مؤثرا على نحو كبير في نمو القطاعات غير النفطية، بسبب تركز الانفاق في تمويل النفقات الجارية والابتعاد التدريجي للحكومة عن النفقات الرأسمالية.

واشارت الدراسة، التي نشرت باللغة الانجليزية تحت عنوان «سياسة النفقات العامة ونمو القطاعات غير النفطية: دلائل من دول مجلس التعاون الخليجي»، الى الدور المتنامي للقطاع الخاص في دول الخليج، اضافة الى أن الاقلال من الاعتماد على الحكومة ساهم بان تكون العلاقة بين النفقات العامة ونمو القطاعات غير النفطية، خلال عقد التسعينات، مختلفة عما كانت عليه في عقد الثمانينات، حيث ان نتائج الدراسة لم تسند الحجة القائلة بأن زيادة النفقات العامة ستساهم بإحداث النمو، لا سيما المتعلق منه بنمو القطاعات غير النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي. ويخالف هذا الاستنتاج شبه اجماع بين الاقتصاديين حول تأثير الانفاق العام على النمو الاقتصادي، وفي الحالة الخليجية فان شكل الانفاق ونوعه لا يقلان اهمية عن حجم الانفاق. ووفقا للدراسة، فان عدم وضوح العلاقة بين سياسة الانفاق والنمو في دول مجلس التعاون الخليجي يرجع في جزء منه الى عدم استقرار النفقات العامة، ولا سيما الرأسمالية منها خلال بعض الفترات التي كانت تشهد تراجعا في أسعار النفط، حيث كان دائما من السهل تخفيض النفقات الرأسمالية وليس النفقات الجارية التي كانت تخصص لتمويل الرواتب والاجور والخدمات العامة حيث كان من السهل خفض الانفاق الرأسمالي دون اي مخاطر سياسية او اجتماعية، في حين ان خفض الرواتب، او ترشيد مستوى الخدمات العامة، يتضمن مخاطر سياسية واجتماعية سعت دول مجلس التعاون الخليجي الى تجنبها. وتدلل الدراسة على ذلك بانه، ورغم تراجع اسعار النفط خلال العقدين الماضيين، فان فاتورة الاجور والرواتب في تلك الدول لم تتراجع مما يثبت استمرار الحكومات الخليجية في لعب دور «الموظِف الاكبر»، ولذا فان النفقات الجارية كانت تفوق تلك الرأسمالية. وبحسب الدراسة فان سياسة الانفاق العام في دول الخليج تدلل على ادراك متزايد لأهمية عزل تأثير السياسات المالية الحكومية على نمو القطاعات غير النفطية، وهذا ما ساهم بإحداث تغيير في درجة اعتماد نمو القطاعات غير النفطية على الدولة كمحرك لأنشطة تلك القطاعات. وتعتبر هذه الاستراتيجية احد البدائل العملية لتفعيل شعار تنويع الاقتصاد. ومنذ مننتصف التسعينات فان المخططين، في دول مجلس التعاون، انتهجوا سياسات من شأنها الحد من تأثيرات تقلبات اسعار النفط على نمو القطاعات غير النفطية، حيث باتت ترافق ترديد شعار «التنويع» سياسات رديفة مثل تقوية المراكز المالية لبعض البنوك، والحد من القيود التي كانت تعيق انطلاق قطاعات خدمية مثل السياحة، ساعدها في ذلك الزيادة المتحققة في صادرات جديدة مثل البتروكيماويات والاسمدة والغاز الطبيعي والالمنيوم. يبقى القول ان دراسة صندوق النقد المشار اليها ركزت على ان الزيادة في المداخيل المتحققة خلال فترة الانتعاش التي شهدتها اسعار النفط، خلال فترات من العامين الماضيين، لم تخصص لتمويل النفقات العامة بل تم تخصيصها لتعزيز احتياطياتها النقدية، او خصصت لسداد بعض الديون المحلية في اشارة الى سياسات الانفاق العام، لم تعد تركز على نيل استحسان شريحة واسعة من المستهلكين، بل باتت تركز على اتخاذ اساليب وقائية لتجنب عجوزات مستقبلية في الموازنة، او تؤدي لتراكم ديون خارجية قد تسبب أزمات لا يمكن التعامل معها في حينها.

* باحث بالوحدة الاقتصادية لمركز الدراسات الاستراتيجية ـ الجامعة الاردنية Isaifcssjordanorg