للمحسودين فقط!!

TT

ان كنت ناجحاً وصوروك فاشلاً، ففي «قراقوش» لك عبرة، وان كنت مخلصاً وأظهروك خائناً، فلك في «قراقوش» موعظة، وان كنت صادقاً فقالوا عنك غشاشاً فلك في سيرة «القراقوش» سلوان، وان كنت مجتهداً منجزاً منتجاً واتهموك بالعطالة والبطالة والخرق، فلك في تاريخ «قراقوش» درس لا ينسى!! أما من هو قراقوش الذي (قرقشت) به أذهانكم؟ فلا أخال اكثركم إلا يعرفه! انه فتى رومي خصي (متعكم الله بجميع قواكم، وحفظها.. ما ظهر منها وما بطن)، تعرف عليه القائد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله فقربه اليه حين رأى فيه مواهب ادارية وعسكرية وهندسية فذة، وندر من البشر من يجمع بين هذه المواهب، فسبحان الواهب!! انه أحد مفاتيح انتصارات صلاح الدين الأيوبي، وهو ساعده الأيمن في الملمات والنكبات، وهو الذي أسس قلعة صلاح الدين الشهيرة في القاهرة، واعاد إعمار مدينة عكا الاستراتيجية وبنى سورها في ذروة مقاومة صلاح الدين للصليبيين، وهو الذي بنى قناطر الجيزة التي اعتبرها بعض المؤخرين من اعمال الجبابرة.

لقد وصف صلاح الدين قراقوشا بأنه «الثبت الذي لا يتزلزل، والطود الذي لا يتحلحل»، رحم الله صلاحاً فلو عاش لرأى كيف ان سمعة الطود قد تحلحلت، وسيرة الثبت قد تزلزلت!! والذي تولى كبر هذه الحلحلة وباء بإثم هذه الزلزلة في واحدة من اسوأ محاولات تشويه الناجحين في التاريخ، هو (ابن مماتي) احد حساد قراقوش ـ وكم في الدنيا من (قراقيش) محسودين ـ فقد ألف كتاباً تافهاً سماه «الفاشوش في حكم قراقوش»، مرّغ فيه سمعة قراقوش المسكين في التراب، وصور هذا الرجل الفذ المبدع بأنه تافه، قليل العقل، هزيل الشخصية. وصاغ (ابن مماتي) في كتابه طرائف وسخافات ـ على طريقة قصص جحا ـ اسوقك لكم عينة منها، فهو يقول ما نصه:

حُكي ان قرقوشاً كان في كل سنة يتصدق بمال جزيل، فلما انتهت الصدقة، انهت اليه امرأة ان زوجها مات ولا كفن له. فقال قراقوش: «اما الصدقة بتاع هذه السنة ففرغت، ولكن اذا جاءت السنة الآتية، فتعالي نرسم لك بكفن!!». فهل يعقل ان ينسب مثل هذا الخرف الى شخص عادي، ناهيك من ان يصح عن فلتة مثل (قراقوش) وصفه ابن كثير بأنه «الفحل الخصي.. كان شهماً شجاعاً فاتكاً»، وقال عنه شهاب الدين المقدسي «.. لم أر غيره خصياً لم تقاومه الفحول»، وأقول بأنه لا يضيره انه خصي، فبعض البشر فحل في الفراش لكنه تافه كالخشاش!! المشكل يا سادة ان عبارات الاطراء والثناء تلاشت مع غبار الدعاية (الفاشوشية) ولم يشتهر من كتب (ابن مماتي) العشرين سوى هذا الكتاب، أي انه (تبلويد) زمانه، وقد وصفه زميل الدراسة والقلم الأستاذ صالح الجاسر، بأنه كتاب ليس له قيمة أدبية ولا تاريخية، وانبرى للدفاع عن قراقوش بتأليف سفر لطيف خفيف ظريف سماه «قراقوش المظلوم حياً وميتاً» وأهداني ـ مشكوراً ـ نسخة منه، ولو شاورني الزميل الجاسر لاقترحت عليه ان يكون عنوانه «تسليط الشاكوش على كتاب الفاشوش»!! الشيء الوحيد المستفاد من كتاب «الفاشوش» انه أفاد بتاريخ استخدام بعض الكلمات المصرية الدارجة مثل: (بتاع) كما في الطرفة الآنفة الذكر، و(سيبوه) و(ودِّي) التي وردت في الكتاب والتي كانت تستخدم منذ الدولة الأيوبية!! أما كلمة (ودِّي) بالذات فلا غرابة في استخدامها في عهد صلاح الدين، ربما لأنه (ودَّى) الصليبيين في داهية!!