الكرسي العتيق

TT

فقد والده وعمره سبعة اشهر. وترك الأب للعائلة مبنى سكنياً صغيراً اجرته العائلة وانتقلت للعيش في شقة صغيرة تملكها جدة الطفل لأبيه. عاشت العائلة المؤلفة من ارملة واربعة اولاد في ضنك شديد. وارسلت الابن البكر يعمل مبكراً كموظف بسيط في دار للنشر. اما هو فأرسل الى مدرسة المقاصد الاسلامية. وكان يعطى مصروفه اليومي نصف غرش، اي ما يكفي لشراء حلواه المفضلة: شيء من «البسكوت» وشيء من راحة الحلقوم.

اراد ان ينتقل من دراسة الفرنسية في «المقاصد» الى الانكليزية في ثانوية الجامعة الاميركية في بيروت. لكن امه سألته: «ومن اين المال»؟ وكانت ابنة خالته تصغي عفواً للحديث، وهي سيدة ميسورة، فتبرعت بأقساطه المدرسية. وكانت خالته ايضاً تساعد العائلة ما في وسعها. وأحب هو الادب العربي. وكان في تلك المرحلة شديد التأثر بطه حسين وعباس محمود العقاد. لكن امه نهته عن التخصص في الأدب، لأنه لا «يطعم خبزا» والعائلة فقيرة وفي حاجة الى تحسّن للاوضاع.

دخل كلية الاقتصاد في الجامعة الاميركية باعانة. ثم حصل على منحة سنوية كل سنة. وبدأ ايضاً العمل الاضافي في الجامعة نفسها. وأحب في شبابه اغاني عبد الوهاب وبعده فيروز. لكن لم يكن في المنزل مذياع فكان يصغي الى اغانيها من راديو الجيران. وأحب السينما لكنه لم يكن قادراً على حضور الافلام إلا في العيد الصغير والعيد الكبير. وعندما نال الجائزة الاولى لمسابقة حسابية وقدرها 300 ليرة لبنانية اخذ المبلغ واشترى به غسالة كهربائية لأمه. وعند تخرجه اهدته ابنة خالته جهاز راديو.

عندما اصبح رئيساً لمجلس «ادارة البنك العربي والدولي للاستثمار» كان اول ما فعله انه التقى محمد عبد الوهاب في باريس وفيروز في «الرابية»، وليس من راديو الجيران. وكان قد عمل قبل ذلك في «غرفة التجارة اللبنانية» حيث تعرّف الى سكرتيرة الغرفة، ليلى فرعون. وتزوج ورزق منها ابنتهما الوحيدة، وداد الحص، على اسم امه. واهدته وداد حفيداً على اسمه، سليم الحص.

في هذه الفترة دعي الى تدريس الاقتصاد في الجامعة الاميركية. وفي العام 1964 ذهب الى الكويت يعمل خبيراً مالياً في الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، مدة عامين. وعاد الى بيروت ومعه ثمن شقة في العاصمة. والباقي ليس مهماً كثيراً في سيرة سليم الحص، بل عادي بالنسبة الى كثيرين، بما في ذلك رئاسة الحكومة خمس مرات. المهم كان مشاق تلك السيرة الذاتية التي طبعت حياته والتي لم اكن اعرف عنها شيئاً قبل ان اقرأ احاديث له في «الشرق الأوسط» منذ اشهر، وفي «الخليج» هذا الاسبوع. لقد شعرت انني اتعرف الى سليم الحص من جديد. وانني اعرف اكثر ماذا تعني غرفة الاستقبال المترفة بالتواضع. وقد قلت له مرة جاداً: «هذه الكرسي يحتاج الى رتق يا دولة الرئيس». ولم اكن ادري ما اقول الا عندما انفجر ضاحكاً قائلاً: «ايّها؟ ايَّها؟». وضحكت بدوري عندما ايقنت ماذا فعلت، وقلت: «الافضل استبداله».

حلت محل الرئيس سليم الحص في مقعد بيروت النيابي، السيدة غنوة جلول، التي، مثل سليم الحص، درست في المقاصد الاسلامية بمساعدة ودرست في الجامعة الاميركية بمنحة، وذهبت الى اوستراليا من اجل الدكتوراه كما ذهب هو الى جامعة انديانا. وتعطي سيرة غنوة جلول صاحبتها الحق في كل ما وصلت اليه، بما في ذلك مقعد نيابي عن بيروت، ولكن كل سيرة غنوة جلول، ابنة موظف البلدية المتواضع، لا تعطيها الحق في مقعد سليم الحص. لا احد يستحق هذا الكرسي النزيه المتواضع في «عائشة بكار» التي بحاجة الى رتق، او الى استبدال. ولم يزد كسب ذلك المقعد شيئاً في حياة غنوة جلول، استاذة علوم التكنولوجيا في الجامعة الاميركية، ولم ينقص شيئاً في حجم وسيرة سليم الحص. فالمقعد في اهمية صاحبه وليس في خشبه. وفي البرلمان اللبناني 128 نائباً الآن، غير ان ميزته بمن افتقد، وبقليله لا بكثيره.