الدين والحرية (2)

TT

كان منظرا عجيبا ذاك الذي تناقلته الفضائيات من كابول بعد ان ارغمت طالبان على الفرار منها. رجال بلحى طويلة امام محلات الحلاقة يريدون حلقها، وآخرون امام محلات اشرطة موسيقية لتوها عادت للعمل، يبحثون عن اغنية كادوا ينسونها، واطباق لاقطة محلية الصنع في كل مكان، وشارع فاض ببشر ينتظرون دورهم في الدخول الى دار سينما اعيد فتحها، ونساء يخلعن الحجاب ذي المقاييس الطالبانية، والبسمات تحتل الوجوه. اخذت افكر وانا اسمع هذه الاخبار وأرى هذه المشاهد: هل اصبحت اللحى عبئا ثقيلا على بعض اصحابها الى هذا الحد، بحيث يسرعون الى التخلص منها في اقرب فرصة سانحة؟ وهل اصبحت الافلام والاغاني من الضرورات الحياتية القصوى لدى البعض، بحيث تستلزم كل هذا الزحام؟ لا اعتقد، بل واكاد اجزم بأن القضية ليست قضية استثقال لحية او الشوق العارم لاغنية او فيلم، بقدر ما هي مسألة نفسية بحتة، متعلقة بقضية الحرية والاختيار، وتأصلهما في الذات البشرية منذ ان خلق الله الانسان الاول. فالذي حلق اللحية بمجرد خروج طالبان من كابول، قد يعود ويرسلها من جديد، ولكن باختياره الشخصي هذه المرة، وباقتناعه الذاتي في هذه الحالة، وليس لانه وجد نفسه مضطراً لذلك، كما في الحالة الطالبانية، بل وربما بعد فترة من الزمان يصبح اصحاب اللحى مثلا اكثر من حليقيها، ولكن لاسباب مختلفة هذه المرة. وذات الشيء يمكن ان يقال عن بقية الظواهر. فقد يكون من بين المزاحمين على محل الاشرطة او دار السينما، من لا يحب الفن جملة وتفصيلا، وقد لا يعود الى دار السينما ثانية، ولكنه زاحم مع المزاحمين، لا حبا في ذات الفن، ولكن ممارسة لحرية شخصية افتقدها ونسي نكهتها، فأراد ان يستعيد مذاقها قبل ان يمارس ما يراه، واكرر ما يراه مناسبا لقناعاته الذاتية الخاصة، دون جبر او اكراه، طالما انه لم يتعد على الآخرين في ذلك.

وبعيدا عن كابول وافغانستان والاخوة من طالبان، وفي حادثة مشابهة وغير مشابهة، قامت الحكومة الاميركية في فترة من تاريخها بمنع تجارة واستهلاك الخمور في الولايات المتحدة، وفق قانون فونستد لعام 1919. وكانت النتيجة هي ان نمت صناعة الخمور السرية نموا كبيرا، وتعملقت عصابات التجارة السرية بهذه المادة، وازداد استهلاك الخمور بشكل كبير خلال فترة المنع، مما دعا الحكومة الاميركية الى رفع الحظر وابطال قانون فونستد عام 1933، فعادت مستويات الاستهلاك الى ما كانت عليه قبل المنع. فالمنع لم يؤد الى تحقيق المقصود منه، الا وهو القضاء على ظاهرة شرب الخمور، بل انه ادى الى زيادتها واستفحال خطرها. ومن المعلوم، وكما نقول في امثالنا الشائعة ان «كل ممنوع مرغوب»، والسؤال هو: لماذا؟ لماذا يكون كل ممنوع مرغوبا؟ الاجابة، ببساطة، ليس لأن الممنوع مرغوب فيه بذاته، او ان فيه من عوامل الاغراء الذاتي ما يجعله جذابا على الدوام، بقدر ما ان المسألة متعلقة بأمر سيكولوجي بحت قابع في اعماق النفس البشرية، ألا وهو النفور من القسر والاكراه، ومحاولة تحدي الاكراه والمنع بأي وسيلة ممكنة، حتى لو كان الفرد يعلم تمام العلم ان الخير كل الخير يكمن في ما هو مكره عليه. الخير يكون خيرا حين يكون مختارا، من حيث انه خير بوعي ذاتي، وليس خيرا بوصاية فوقية تفترض قصورا في الرشد في الموصى عليهم، وهنا يكمن الفرق في استمرارية الخير من عدمه. وهذا هو المعنى الاجمالي لما ذهبنا اليه في المقالة الاولى من ان وجود الشر ضروري لانبثاق الخير.

فمثلا، حين احذر اهل بيتي من رداءة طعام معين، ولا يكون هذا الطعام موجودا، فإنني لا اعلم حقيقة هل ان تجنبهم مثل هذا الطعام كان نتيجة قناعة ذاتية، ام ان عدم وجوده هو السبب في عدم تناولهم اياه. اما ان يكون مثل هذا الطعام متاحا، واحذرهم منه بعد ان ابين لهم لماذا كان التحذير، فهنا يكون الاختبار. فهم يذهبون ويجيئون ويرون الطعام امامهم، ولست رقيبا عليهم على الدوام، وهنا يكون السلوك المعبر عن الشخص لا المفروض عليه. فإن التزموا بما قلت وحذرت فإني اعلم ساعتها انهم يحترمون كلمتي، ويثقون بي بقناعة ذاتية، وان سلوكهم نتيجة قناعة ذاتية، وليس نتيجة عدم اتاحة الفرصة. والاهم من ذلك كله هو انهم امتنعوا عن السلوك المحذر منه بكامل حريتهم ثقة بي، حتى وانا لا اراهم. فالسلوك المتخذ اختيارا، غير السلوك المتبع اجبارا، وفي ذلك يقول الروائي الفرنسي اميل زولا: «قد يؤدي السوط بالمرأة الى الرذيلة، ولكنه لا يمكن ان يدفعها الى الفضيلة»، فالفضيلة في النهاية التزام داخلي قبل ان تكون سلوكا خارجيا.

وحتى لو ان احدا من اهل بيتي خالف قولي في ما هو خير وشر، وحسن وسيئ، فإنه في النهاية سيكتشف «بنفسه» حقيقة ما اقول، على افتراض اني على الحق، وسيكون اكثر التزاما بما اقول بعد ان جرب بنفسه ما كنت اعلمه سلفا. وجود الشر بجانب الخير ضروري لسيادة الخير في النهاية. فالغرب مثلا يعج بأنواع الرذيلة المتاحة، ولكن هل كل اهل الغرب، او حتى معظمهم، من اصحاب الرذيلة وممارسيها؟ لو كانوا كذلك، كما يفترض البعض، لما سادوا عالم اليوم بالعلم والانتاج. والشرق، في كثير من بقاعه، مجبول على الفضيلة، فهل تخلو ديار هذا الشرق من الرذيلة وممارسيها؟ لو كان الامر كذلك، لما كان هو الحال. ان يُخطئ المرء او لا يعرف الصواب من الخطأ في هذه اللحظة او تلك، مسألة واردة، فلسنا من ملائكة الرحمن الذين لا يخطئون. ولكن عدم الاستفادة من تجربة الخطأ، هو الخطأ بعينه، بل قد تكون ممارسة الخطأ في هذه اللحظة او تلك، هي الطريق الى الصواب في نهاية المطاف. فلقد بكى آدم كثيرا بعد الخروج من الجنة حتى غفر الله له، ومن ثم لم يخالف ما امر به بعد التجربة القاسية في الاكل من الشجرة المحرمة. لقد كانت الخطيئة طريق آدم الى الجنة من جديد، وكان الكبر والخيلاء طريق ابليس الى الجحيم، وهو الذي كان قبل خلق آدم عابدا طائعا لا يعصي للرحمن امرا. وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية: «رب معصية اورثت ذلا وانكسارا فأدخلت صاحبها الجنة، ورب طاعة اورثت صاحبها عجبا وكبرا فأدخلته النار».

والشجرة المحرمة قد لا تختلف كثيرا عن اي شجرة أخرى في الجنة، وقد لا تكون ثمارها اشهى من الثمار الأخرى، ولكن كونها ممنوعة، جعلت آدم وحواء يستجيبان لوسوسة الشيطان، ويقبلان عليها رغم التحذير من مغبة فعلتهما، والتحذير الالهي المسبق من عداوة الشيطان لهما، وترك الله سبحانه الشجرة في الجنة، رغم تحريمها، ربما يكون وراءه غاية معينة الا وهي ان يختار الانسان الطاعة بملء ارادته، وهنا يكمن المعنى في السلوك الانساني، وما يقف وراءه من دافع الحرية. فالخالق جلت قدرته هو من منع، وهو ذاته من زرع بذرة الحرية في الذات الانسانية، لحمة ارادها منذ البدء حين اجاب الملائكة المتخوفين من خلق الانسان بأنه يعلم ما لا يعلمون. ولأجل ذلك نجد ان الأجر على قدر المشقة مثلا، والمشقة تكون اعظم في حالة الاختيار، لأن الحرية تكمن في الاختيار. فلو فرضنا ان مسلما يعيش في مجتمع يمنع القانون فيه كل ما حرم الله، وآخر يعيش في مجتمع لا يمنع القانون فيه ما حرم الله، وكلاهما متمسك بدينه وتعاليم هذا الدين، فمن يكون اكثرهما أجرا؟، لا شك في انه المعاني اكثر، وهو ذاك الذي اختار الامتناع بمحض ارادته، رغم انه ليس هناك عقاب قانوني فيما لو فعل المحرم. من اجل ذلك كان الدين مرتبطا بالحرية على الدوام، فلا معنى لحساب وعقاب دون حرية، ولا معنى لحرية دون حساب وعقاب. الفردية، وبالتالي حرية الفرد، هي جوهر الدين. فالانسان يولد وحيدا عاريا، ويدفن وحيدا عاريا الا من كفنه، ويُبعث وحيدا عاريا، ويُحاسب وحيدا، ثم الى ثواب او عقاب: «كل نفس بما كسبت رهينة». وعندما نتحدث عن الحساب، فإننا نتحدث عن المسؤولية. وعندما نتحدث عن المسؤولية، فإننا في النهاية نتحدث عن الحرية، فالحرية والمسؤولية وجهان لحقيقة واحدة، رغم تعارضهما الظاهري. فالمسؤولية دون حرية هي الرق بعينه، كما ان الحرية دون مسؤولية هي الفوضى بذاتها.

والاسلام منهاج كامل للحياة، ذاك امر لا مرية فيه. ولكن حين نتحدث عن الاسلام، فعن اي اسلام نتحدث؟ او بالاصح عن اي مفهوم للاسلام نتحدث؟ فنعم الاسلام واحد، واركانه واحدة، ولكن ذلك لم يمنع من الاختلاف في فهمه ومعناه. هناك نوع من الاتفاق على النصوص المطلقة، ولكَنْ هناك اختلاف على معنى تلك النصوص، سواء كان تناولها من زاوية فقهية او كلامية او فلسفية او ايديولوجية سياسية او ابستمولوجية، او غير ذلك. وفي هذا المجال، يفرق احد الباحثين مثلا بين نمطين او مستويين للاسلام: اسلام الوحي «المبني على النص الخالص»، والاسلام الفقهي «الذي تقدمه المنظومة السلفية مبنيا على التاريخ». ففي اسلام الوحي: «تتسع دائرة المباح، وتتقلص دائرة الالزام، ويرتفع سقف التكاليف فوق فضاء واسع من الحرية واحترام العقل الانساني، دون ان ينقص ذلك من حرارة الايمان». وفي اسلام الفقه: «تنقبض دائرة المباح، وتتسع دائرة الالزام، ويتسع التوجس من العقل والحرية، دون ان يزيد ذلك من حرارة الايمان شيئا». (عبد الجواد ياسين، السلطة في الاسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1998، ص 9).

فرغم بساطة الاسلام، وكونه دين الفطرة النقية، الا ان نبيه الكريم، عليه افضل الصلاة وازكى التسليم، قال في الحديث الصحيح ما معناه: «تفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار الا واحدة». والمشكلة اننا لا نعلم جزما من هي تلك الفرقة الناجية، رغم ان كل فرقة ترى في نفسها شروط النجاة والفرقة الناجية، من حيث انها على ما كان عليه الرسول الكريم وصحابته الفضلاء. فليس هناك فرقة او حتى فرد يرى في نفسه الضلال ومع ذلك يصر عليه. الكل في هذا الامر من المجتهدين، وكل يرجو ان يكون اجتهاده هو الصحيح، ولكن ليس هناك من يستطيع الجزم بأنه وحده هو الفرقة الناجية، وان غيره على الضلال، مما يعني ان الامة كلها هي الفرقة الناجية، كما يرى ذلك الاستاذ فهمي هويدي في احدى مقالاته، طالما ان الحسم في هذا الامر مسألة فيها نظر. والحقيقة انه لا ضير في الاختلاف، طالما ان التسامح هو ديدن التعامل والمعاملة، ولكن المشكلة تنبع حين يحاول احدهم ان يفرض حقيقته على بقية الحقائق. وفي هذا الامر، يمكن القول في النهاية ان النية هي مناط العمل، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انما الاعمال بالنيات، وانما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله، ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه». (رواه البخاري ومسلم). الفعل واحد هنا، الا وهو الترحال والهجرة، ولكن القصد والغاية مختلفان، وهنا يكمن الفرق. فمن كانت نيته خالصة لوجهه الكريم، فهو على الصراط المستقيم ان شاء الله، وما عدا ذلك فلا يملك احد الحق في التأكيد على انه هو وحده يمثل الفرقة الناجية، دون بقية خلق الله اجمعين: «لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت».

وعودة الى قصة الشجرة المحرمة، يمكن القول ان الحكيم قد جعل الشجرة المحرمة ظاهرة في وسط الجنة عن قصد وتدبير. كانت الشجرة موضوعة هناك كنوع من الاختبار لمدى طاعة آدم لأوامر ربه، وهو الذي فضله على كثير من خلقه تفضيلا، وسخر له ما في الارض جميعا. فلو لم تكن الشجرة موجودة امام الاعين، لما كان هناك محل للاختبار. وجود الشجرة، ووجود الشيطان نفسه، كانا ضروريين لاكتمال التجربة الانسانية الاولى، وبدونهما ما كان الانسان الاول (آدم وحواء) قادرا على الاختيار، وبالتالي لا فرق بينه وبين بهيمة تسيرها الغريزة الخالصة، او ملاك نوراني يفعل ما يؤمر: هو انسان لانه حر، وفي الحرية يكمن معنى الانسانية وجوهر البشرية. ولأنه حر، فضله الرحمن على كثير من خلقه، بل ان يكون الانسان مسؤولا عن افعاله، وحرا في اختيار مصيره، كان خيارا حرا منذ البداية: «انا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا» (الاحزاب 72).

لقد كان ظلوما جهولا، حيث انه لم يقدر حجم المسؤولية التي قبلها بمحض اختياره، وافتقد الامن المطلق الذي كان يمكنه الحصول عليه برفض حرية الاختيار جملة وتفصيلا، والتخلص من قضية الحساب والعقاب والثواب. ولكن، ورغم ظلمه وجهالته، الا انه كان كبيرا في عين الخالق، الذي فضله على كثير من خلقه رغم الظلم والجهل. فحب الحرية والاختيار الحر مدعاة للتفضيل، حتى لو كانت هذه الحرية مؤدية الى الهلاك والدمار وسفك الدماء، كما قالت الملائكة للحق في بداية الخلق. ففي النهاية، فإن الحر مسؤول عن تصرفاته، حتى لو كانت هذه التصرفات خاطئة، ومن المسؤولية والاحساس بها، تنبع عظمة الانسان من حيث هو حامل النفخة الالهية الاولى. فإذا كان لدى الانسان قدر من الحرية، فذاك مرده لله تعالى، الذي هو صاحب الحرية المطلقة، فعال لما يريد، اذا اراد شيئا قال له كن فيكون، وبذا كان التفضيل والتسخير و... «إني أعلم ما لا تعلمون». هذا، ويتواصل الحديث بإذن الجليل.